الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ }

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ } أي: لا يهزأ رجال من رجال، فيروا أنفسهم خيراً من المسخور منهم { عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } أي: الساخرات.

قال أبو السعود: فإن مناط الخيرية في الفريقين، ليس ما يظهر للناس من الصور والأشكال ولا الأوضاع والأطوار التي عليها يدور أمر السخرية غالباً. بل إنما هو الأمور الكامنة في القلوب، فلا يجترئ أحد على استحقار أحد، فلعله أجمع منه، لما نيط به من الخيرية عند الله تعالى، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله تعالى، والاستعانة بمن عظمه الله تعالى. ومن أهل التأويل من خص السخرية بما يقع من الغنيّ للفقير. وآخرون بما يعثر من أحد على زلة أو هفوة، فيسخر به من أجلها.

قال الطبريّ: والصواب أن يقال إن الله عَمَّ، بنهيه المؤمنين من أن يسخر بعضهم من بعض، جميعَ معاني السخرية. فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن، لا لفقره، ولا لذنب ركبه، ولا لغير ذلك.

وقد عدّ الغزاليّ في (الإحياء) السخرية من آفات اللسان، وأوضح معناها بما لا مطلب وراءه فننقله هنا تتميماً للفائدة، قال رحمه الله:

الآفة الحادية عشرة: السخرية والاستهزاء: وهذا محرم مهما كان مؤذياً، كما قال تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ... } الآية. ومعنى السخرية: الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص، على وجه يُضحك منه. وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء، وإذا كان بحضرة المستهزأ به لم يسم ذلك غيبة، وفيه معنى الغيبة.

وقالت عائشة رضي الله عنها: حاكيت، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: " والله ما أحب أني حاكيت إنساناً، ولي كذا وكذا ".

وقال ابن عباس في قوله تعالى:يٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [الكهف: 49] إن الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمن، والكبيرة القهقهة بذلك.

وهذا إشارة إلى أن الضحك على الناس من جملة الذنوب الكبائر.

وقال معاذ بن جبل: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " من عيّر أخاه بذنب قد تاب منه، لم يمت حتى يعمله ".

وكل هذا يرجع إلى استحقار الغير، والضحك عليه، والاستهانة به، والاستصغار له. وعليه نبه قوله تعالى: { عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ }. أي: لا تستحقره استصغاراً، فلعله خير منك. وهذا إنما يحرم في حق من يتأذى به. فأما من جعل نفسه مسخرة، وربما فرح من أن يسخر به، وكان السخرية في حقه من جملة المزح. ومنه ما يذم وما يمدح. وإنما المحرم استصغار يتأذى به المستهزأ به، لما فيه من التحقير والتهاون، وذلك تارة بأن يضحك على كلامه إذا تخبط فيه ولم ينتظم، أو على أفعاله إذا كانت مشوشة، كالضحك على حفظه وعلى صنعته أو على صورته وخلقته، إذا كان قصيراً أو ناقصاً، لعيب من العيوب، فالضحك من جميع ذلك داخل في السخرية المنهيّ عنها.

السابقالتالي
2 3