الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً }

{ لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ }.

قال ابن جرير: أي: لقد صدق الله رسوله محمداً رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين، لا يخافون أهل الشرك، مقصراً بعضهم رأسه، ومحلقاً بعضهم. ثم روي عن مجاهد أنه قال: أُرِيَ بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية: أين رؤيا محمد صلى الله عليه وسلم؟

وعن ابن زيد قال: قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم: " إني قد رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رؤوسكم مقصرين " ، فلما نزل بالحديبية، ولم يدخل ذلك العام، طعن المنافقون في ذلك فقالوا: أين رؤياه؟ فقال الله: { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ... } الآية، إني لم أُرِهِ يدخلها هذا العام، وليكونن ذلك. و (الرُّءْيَا) منصوب بنزع الخافض، أي: صدقه في رؤياه. أي: حقق صدقها عنده، كما هو عادة الأنبياء عليهم السلام، ولم يجعلها أضغاث أحلام. أو منصوب على أنه مفعول ثان، وهو ما قاله الكرمانيّ، وعبارته: (كذب) يتعدى إلى مفعولين، يقال: كذبني الحديث، وكذا (صدق) كما في الآية. وهو غريب لتعدي المثقل لواحد، والمخفف لمفعولين.

وقوله: { بِٱلْحَقِّ } حال من الرؤيا. أي: متلبسة بالحق، ليست من قبيل أضغاث الأحلام.

وقوله: { لَتَدْخُلُنَّ } جواب قسم محذوف؛ أي: والله! لتدخلن.

وقوله: { إِن شَآءَ ٱللَّهُ } تعليق للعدة بالمشيئة، لتعليم العباد، أو للإشعار بأن بعضهم لا يدخل، فهو في معنى: ليدخلنّه من شاء الله دخوله منكم. أو حكاية لما قاله ملك الرؤيا، أو النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه.

وقوله: { مُحَلِّقِينَ } حال مقدرة، لأن الدخول في حال الإحرام، لا في حال الحلق والتقصير. وفي الكلام تقدير، أو هو من نسبة ما للجزء إلى الكل. والمعنى: محلقاً بعضكم ومقصراً آخرون. والقرينة عليه: أنه لا يجتمع الحلق والتقصير، فلا بد من نسبة كل منهما لبعض منهم.

وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " " رحم الله المحلقين! " قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: " رحم الله المحلقين؟ " قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: " رحم الله المحلقين! " قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: " والمقصرين! " ".

وقوله تعالى: { لاَ تَخَافُونَ } حال مؤكدة لقوله: { آمِنِينَ } أو مؤسسة؛ لأن اسم الفاعل للحال والمضارع للاستقبال، فيكون أثبت لهم الأمن حال الدخول. ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد، لا يخافون من أحد.

قال الحافظ ابن كثير: وهذا كان في عمرة القضاء، في ذي القعدة سنة سبع، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة، رجع إلى المدينة، فأقام بها ذي الحجة ومحرم، وخرج في صفر إلى خيبر، ففتحها الله عليه، بعضها عنوة، وبعضها صلحاً، وهي إقليم عظيم، كثير النخل والزروع، فاستخدم من فيها من اليهود عليها، على الشطر، وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم، ولم يشهدها أحد غيرهم، إلا الذين قدموا من الحبشة: جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وأبو موسى الأشعري وأصحابه رضي الله عنهم، ولم يغب منهم أحد.

السابقالتالي
2 3