الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ }

{ فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } لما كان طليعة هذه السورة تمهيداً لجهاد المشركين الساعين في الأرض بالفساد، الصادّين، عن منهج الرشاد، وبعثاً على الصدق في قتالهم، كسحاً لعقبة باطلهم، عملاً بما يوجبه الإيمان ويفرضه الإيقان، وتمييزاً لأولياء الرحمن من أولياء الشيطان، تأثر تلك الطليعة بهذه الجملة. ولذا قال أبو السعود: الفاء لترتيب ما في حيّزها من الأمر على ما قبلها؛ فإن ضلال أعمال الكفرة وخبثهم، وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم، مما يوجب أن يرتب على كل من الجانبين ما يليق به من الأحكام؛ أي: فإذا كان الأمر كما ذكر، فإذا لقيتموهم في المحاربة، فضرب الرقاب. وأصله: فأضربوا الرقاب ضرباً. فحذف الفعل، وقدم المصدر، وأنيب منابه مضافاً إلى المفعول. وفيه اختصار وتأكيد بليغ. والتعبير به عن القتل، تصوير له بأشنع صورة، وتهويل لأمره، وإرشاد للغزاة إلى أيسر ما يكون منه.

{ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ } أي: غلبتموهم، وقهرتم من لم تضربوا رقبته منهم، فصاروا في أيديكم أسرى { فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ } بفتح الواو، وقرئ بكسرها. وهو ما يوثق به، أي: يربط ويشد، كالقيد والحبل. أي: فأمسكوهم به كيلاً يقتلوكم فيهربوا منكم: { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } أي: فإما تمنون بعد ذلك عليهم، فتطلقونهم بغير عوض، لزوال سبعيّتهم، وإما تفدون فداءً، فتطلقونهم بعوض مال، أو مسلم أسروه فيتقوى به المسلمون، أو يتخلص أسيرهم.

قال المهايميّ: ولم يذكر القتل اكتفاء بما مر من قوله:مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ } [الأنفال: 67] وذلك فيمن يرى فيه الإمام بقاء السبعية بالكمال، ولم يذكر الاسترقاق؛ لأنه في معنى استدامة الأسر، وذلك فيمن يرى فيه نوع سبعية، ولا تزالوا كذلك: { حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي: إلى انقضاء الحرب. و(الأوزار) كالأحمال وزناً ومعنى، استعير لآلات الحرب التي لا تقوم إلا بها، استعارة تصريحية أو مكنية، بتشبيهها بإنسان يحمل حملاً على رأسه أو ظهره، وأثبت له ذلك تخييلاً، وقد جاء ذكرها في قول الأعشى:
وأعددتَ للحرب أوزارَها   رماحاً طِوالاً وخيلاً ذُكُورًا
وقيل: أوزارها: آثامها. يعني: حتى يترك أهل الحرب - وهم المشركون - شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا.

تنبيهات

الأول: قال في (الإكليل): في الآية بيان كيفية الجهاد.

الثاني: للسلف قولان في أن الآية: منسوخة أو محكمة.

فروي عن ابن عباس وقتادة والضحاك والسدّيّ أنها منسوخة بقوله تعالى:فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة: 5] قالوا: فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة بعد براءة، وانسلاخ الأشهر الحرم.

وروي عن ابن عمر وعطاء والحسن وعمر بن عبد العزيز، أن الآية محكمة ليست بمنسوخة، وأنه لا يجوز قتل الأسير، وإنما له المن أو الفداء.

السابقالتالي
2 3