الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

{ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ } أي: المدركة ألم العذاب الذي لا يدركه السمع والبصر { لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } أي: بما يوجب إيلامكم { قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ } أي: بهذه الشهادة { ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } أي: أنطق كل شيء من الحيوان. فهو من العام الذي خصه العقل، كقوله تعالى:وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة: 284] أي: كل شيء من المقدورات. هذا، على أن النطق على ظاهره وحقيقته. وقيل: المراد ظهور علامات على الأعضاء دالة على ما كانت متلبسة به في الدنيا، بتغير أشكالها ونحوه. مما يلهم الله من رآه أنه صدر عنه ذلك، لارتفاع الغطاء في الآخرة. فالنطق مجاز عن الدلالة. قال القاشانيّ: معنىشَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم } [فصلت: 20] أي: غيرت صور أعضائهم، وصُوِّرت أشكالها على هيئة الأعمال التي ارتكبوها، وبدلت جلودهم وأبشارهم فتنطق بلسان الحال، وتدل بالأشكال على ما كانوا يعملون، ولنطقها بهذا اللسان قالت: { أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } إذ لا يخلو شيء ما من النطق، ولكن الغافلين لا يفهمون. انتهى.

لكن قال الرازيّ: تفسير هذه الشهادة، بظهور أمارات مخصوصة على هذه الأعضاء، دالة على صدور تلك الأعمال منهم، عدول عن الحقيقة إلى المجاز. والأصل عدمه.

ثم قال: وهذه الآية يحسن التمسك بها في بيان أن البينة ليست شرطا للحياة، ولا لشيء من الصفات المشروطة بالحياة. فالله تعالى قادر على خلق العقل والقدرة والنطق في كل جزء من أجزاء هذه الأعضاء. والله أعلم.

تنبيه

قال الرازيّ: نقل عن ابن عباس أنه قال: المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج، وإنه من باب الكنايات كما قال:وَلَـٰكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } [البقرة: 235] وأراد النكاح. وقال:أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ } [النساء: 43] والمراد قضاء الحاجة. فتكون الآية وعيداً شديداً في الزنى. انتهى.

وقد أشار الإمام ابن الأثير في (المثل السائر) إلى ترجيح هذا المعنى. حيث ذكر هذه الآية في الترجيح الذي يقع بين معنيين، يدل عليهما لفظ واحد، يكون حقيقة في أحدهما، مجازاً في الآخر، وعبارته: الجلود ههنا تفسّر حقيقة ومجازاً. أما الحقيقة فيراد بها الجلود مطلقاً، وأما المجاز فيراد بها الفروج خاصة، وهذا هو المانع البلاغيّ الذي يرجح جانب المجاز على الحقيقة، لما فيه من لطف الكناية عن المكنى عنه. وقد يسأل ههنا في الترجيح بين الحقيقة والمجاز، عن غير الجانب البلاغيّ.

ويقال: ما بيان هذا الترجيح؟ فيقال: طريقة لفظ الجلود عامّ، فلا يخلو إما أن يراد به الجلود مطلقاً، أو يراد به الجوارح التي هي أدوات الأعمال خاصة، ولا يجوز أن يراد به الجلود على الإطلاق؛ لأن شهادة غير الجوارح التي هي الفاعلة، شهادة باطلة؛ إذ هي شهادة غير شاهد.

السابقالتالي
2