الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَٰقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَٰتِلُوكُمْ أَوْ يُقَٰتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَٰتَلُوكُمْ فَإِنِ ٱعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً }

{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ } يلجؤون { إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَٰقٌ } أي: عهد بهدنة أو أمان فاجعلوا حكمهم كحكمهم لئلا يفضي إلى قتال من وصلوا إليهم فيفضي إلى نقض الميثاق { أَوْ جَآءُوكُمْ } عطف على الصلة أي: والذين جاءوكم { حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } حال بإضمار (قد) أي: ضاقت وانقبضت نفوسهم { أَن يُقَٰتِلُوكُمْ } لإرادتهم المسالمة { أَوْ يُقَٰتِلُواْ قَوْمَهُمْ } أي: معكم من أجلكم لمكان القرابة منهم، فهم لا لكم ولا عليكم. قال أبو السعود: استُثْنِي من المأمور بأخذهم وقتلهم فريقان: أحدهما: من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين. والآخر: من أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين. وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن. أن سراقَة بن مالك المدلجيّ حدثهم قال: لما ظهر النبيّ صلى الله عليه وسلم على أهل بدر وأُحُد، وأسلم من حولهم، قال: بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج، فأتيته فقلت: أنشدك النعمة، بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام، وإن لم يسلموا لم يحسن تغليب قومك عليهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد فقال: " اذهب فافعل ما يريد " ، فصالحهم خالد على ألا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، وأنزل الله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَٰقٌ } فكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم، وفي قوله تعالى: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَٰتَلُوكُمْ } إشعار بقوتهم في أنفسهم، وأن في التعرض لقتلهم إظهاراً لقوتهم الخفية في الجملة جارية مجرى التعليل لاستثنائهم من الأخذ والقتل { فَإِنِ ٱعْتَزَلُوكُمْ } أي: تركوكم { فَلَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ } مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة الله عز وجل: { وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ } أي: الانقياد والاستسلام { فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } أي: طريقاً بالأسر أو القتل، إذ لا ضرر منهم في الإسلام، وقتالهم يظهر كمال قوتهم.

لطيفة

قال الخفاجيّ: (السلم) بفتحتين: الانقياد، وقرئ بسكون اللام مع فتح السين وكسرها، وكأن إلقاء السلم استعارة، لأنّ من سَلَّمَ شيئاً ألقاه وطرحه عند المسلّم له، وعدم جعل السبيل مبالغة في عدم التعرض لهم، لأن من لا يمر بشيء كيف يتعرض له؟

تنبيه

ظاهر النظم الكريم أن الفريقين المستثنيين من الكفار، وحاول أبو مسلم الأصفهانيّ كونهما من المسلمين حيث قال: إنه تعالى لما أوجب الهجرة على كل من أسلم، استثنى من له عذر، فقال: إلا الذين يصلون، وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول للهجرة والنصرة، إلا أنهم كان في طريقهم من الكفار ما لم يجدوا طريقاً إليه خوفاً من أولئك الكفار، فصاروا إلى قوم بين المسلمين وبينهم عهد وأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص، واستثنى بعد ذلك من صار إلى الرسول، ولا يقاتل الرسول ولا أصحابه، لأنه يخاف الله تعالى فيه، ولا يقاتل الكفار أيضاً، لأنهم أقاربه، أو لأنه أبقى أولاده وأزواجه بينهم، فيخاف، لو قاتلهم، أن يقتلوا أولادهم وأصحابه، فهذان الفريقان من المسلمين لا يحل قتالهم، وإن كان لم يوجد منهم الهجرة ولا مقاتلة الكفار. انتهى.