الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً }

في الآية وجوه: الأول: أنها أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى ويتقوه في أمر اليتامى فيفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذراريّهم الضعاف بعد وفاتهم. الثاني: أنها أمر لمن حضر المريض من العوّاد عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم أو يخشوا أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم، فلا يتركوه أن يضرّ بهم بصرف المال عنهم: الثالث: أنها أمر للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين، متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافاً مثلهم، هل يجوّزون حرمانهم؟ الرابع: أنها أمر للموصين بأن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية. كما ثبت في الصحيحين " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده قال: يا رسول الله! إني ذو مال ولا يرثني إلى ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: " لا " ، قال: فالشطر؟ قال: " لا " ، قال: فالثلث، قال: " الثلث. والثلث كثير " ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس " ".

وفي الصحيح عن ابن عباس قال: لو غض الناس إلى الربع؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الثلث: والثلث كثير (أو كبير) ".

والوجه الأول حكاه ابن جرير من طريق العوفيّ عن ابن عباس، قال ابن كثير: وهو قول حسن يتأيد بما بعده من التهديد في أكل أموال اليتامى ظلماً.

ونقل الرازي عن القاضي: إن هذا الوجه أليق بما تقدم وتأخر من الآيات الواردة في باب الأيتام، فجعل تعالى آخر ما دعاهم إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها، ولا شك أنه من أقوى الدواعي والبواعث في هذا المقصود.

قال الزمخشري: والقول السديد من الأوصياء أن لا يؤذوا اليتامى، ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب، ويدعوهم بـ (يا بنيّ) ويا ولدي، ومن الجالسين إلى المريض أن يقولوا له، إذا أراد الوصية: لا تسرف في وصيتك فتجحف بأولادك، مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: " إنك إن تترك ولدك أغنياء، خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " ، ومن المتقاسمين ميراثهم أن يلطفوا القول ويجملوه للحاضرين.

لطيفة

لا بد من حمل قوله تعالى: { تَرَكُواْ } على المشارفة: ليصح وقوع { خَافُواْ } خبراً له، ضرورة أنه لا خوف بعد حقيقة الموت وترك الورثة، ونظيره:فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [البقرة: 231]، أي: شارفن بلوغ الأجل، ولهذا المجاز، في التعبير عن المشارفة على الترك، بالترك، سِرٌ بديع، وهو التخويف بالحالة التي لا يبقى معها مطمع في الحياة، ولا في الذبّ عن الذرية الضعاف، وهي الحالة التي وإن كانت من الدنيا، إلا أنها لقربها من الآخرة، ولصوقها بالمفارقة، صارت من حَيّزها، ومعبراً عنها بما يعبر به عن الحالة الكائنة بعد المفارقة من الترك، كذا في الانتصاف.

السابقالتالي
2