الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوۤاْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً }

{ فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ } أي: فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين { فِئَتَيْنِ } أي: فرقتين ولم تتفقوا على التبرؤ منهم، والاستفهام للإنكار، والنفي والخطاب لجميع المؤمنين، لكن ما فيه من معنى التوبيخ متوجه إلى بعضهم، وذلك أن فرقة من المؤمنين كانت تميل إليهم وتذب عنهم وتواليهم، وفرقة منهم تباينهم وتعاديهم، فنهوا عن ذلك وأمروا بأن يكونوا على نهج واحد في التباين والتبرؤ منهم، لأن دلائل نفاقهم وكفرهم ظاهرة جلية، فليس لكم أن تختلفوا في شأنهم، وقد قيل: إن المراد بهم هنا عبد الله بن أبيّ وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد، ورجعوا بعسكرهم، بعد أن خرجوا، كما تقدم في آل عمران، كما أوضحه ما رواه الشيخان والإمام أحمد والترمذيّ عن زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين، فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا هم المؤمنون، فأنزل الله: فما لكم في المنافقين فئتين. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد " هذا لفظ أحمد.

وقد ذكر الإمام محمد بن إسحاق في وقعة أُحُد: أن عبد الله بن أبي بن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش: رجع بثلاثمائة وبقي النبيّ صلى الله عليه وسلم في سبعمائة.

وثمة في نزول الآية رواية أخرى أخرجها الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن عوف: أن قوماً من العرب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأسلموا وأصابهم وباء المدينة وحمّاها، فأركسوا، فخرجوا من المدينة، فاستقبلهم نفر من أصحابه. يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا لهم: ما لكم رجعتم؟ قالوا: أصابنا وباء المدينة. فقالوا: أما لكم في رسول الله أسوة حسنة؟ فقال بعضهم: نافقوا. وقال بعضهم: لم ينافقوا. فأنزل الله: { فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ... } الآية. وهذه الرواية هي الأقرب لنظم الآية كما سنبينه في التنبيه الثاني: { وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ } أي: نكّسَهم وردهم إلى الكفر. { بِمَا كَسَبُوۤاْ } أي: بسبب ما كسبوه من لحوقهم بالكفار { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ } أي: تعدّوهم من جملة المهتدين. قال أبو السعود: تجريد للخطاب وتخصيص له بالقائلين بإيمانهم من الفئتين، وتوبيخ لهم على زعمهم ذلك، وإشعار بأنه يؤدي إلى محاولة المحال الذي هو هداية من أضله الله تعالى، وذلك لأن الحكم بإيمانهم وادعاء اهتدائهم، وهم بمعزل عن ذلك، سعى في هدايتهم وإرادة لها، ووضع الموصول موضع ضمير المنافقين لتشديد الإنكار وتأكيد استحالة الهداية بما ذكر في حيّز الصلة، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة لا إلى متعلقها، بأن يقال: أتهدون إلخ للمبالغة في إنكاره ببيان أنه مما لا يمكن إرادته، فضلاً عن إمكان نفسه: { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ } عن دينه { فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أي: طريقاً إلى الهدى.