الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ فَمَالِ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً }

{ أَيْنَمَا تَكُونُواْ } أي: في أي مكان تكونوا عند الأجل { يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ } أي: الذي لأجله تكرهون القتال، زعماً منكم أنه من مظانه، وتحبون القعود عنه، على زعم أنه منجاة منه، أي: وإذا كان لا بد من الموت، فبأنْ يقع على وجهٍ يكون مستعقباً للسعادة الأبدية، كان أولى من ألا يكون كذلك، ونظير هذه الآية قوله تعالى:قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [الأحزاب: 16]. { وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ } أي: حصون: { مُّشَيَّدَةٍ } أي: مرفوعة مستحكمة، لا يصل إليها القاتل الإنسانيّ، لكنها لا تمنع القاتل الإلهي، كما قال زهير بن أبي سلمى:
ومن هاب أسباب المنايا ينَلْنَهُ   ولو رام أسباب السماء بسلَّم
وقد ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم ههنا حكاية مطولة عن مجاهد، والشاهد منها هنا؛ أنها كانت أُخبرت بأنها تموت بالعنكبوت، فاتخذ لها زوجها قصراً منيعاً شاهقاً ليحرزها من ذلك، فبينما هم يوماً فإذا العنكبوت في السقف، فأراها إياها فقالت: أهذه التي تحذرها عليّ؟ والله! لا يقتلها إلا أنا، فأنزلوها من السقف، فعمدت إليها فوطئتها بإبهام رجلها فقتلتها، فطار من سمّها شيء فوقع بين ظفرها ولحمها، واسودت رجلها، فكان في ذلك أجلها، فماتت.

ولما حكى تعالى عن المنافقين كونهم متثاقلين عن الجهاد، خائفين من الموت، غير راغبين في سعادة الآخرة، أتبع ذلك بخلّة لهم أشنع، بقوله سبحانه: { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } كخصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحوها { يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } أي: من قِبَلِه، لما علم فينا الخير { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } كقحط وجدب، وغلاء السعر، ونقص في الزروع والثمار، وموت أولاد ونتاج، ونحو ذلك { يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ } يعنون: من شؤمك، كما قال تعالى عن قوم فرعون:فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ } [الأعراف: 131]، وعن قوم صالح:قَالُواْ ٱطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ } [النمل: 47].

قال أبو السعود: فأمَرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن يرد زعمهم الباطل ويرشدهم إلى الحق ويلقمهم الحجر، ببيان إسناد الكل إليه تعالى على الإجمال، إذ لا يجترؤون على معارضة أمر الله عز وجل حيث قيل: { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } أي: كل واحدة من النعمة والبلية من جهة الله تعالى، خلقاً وإيجاداً، من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شيء منها بوجه من الوجوه كما تزعمون، بل وقوع الأولى منه تعالى بالذات تفضلاً، ووقوع الثانية بواسطة ذنوب من ابتلى بها عقوبة، كما سيأتي بيانه، فهذا الجواب المجمل في معنى ما قيل، رداً على أسلافهم من قوله تعالى:أَلاۤ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ ٱللَّهِ } [الأعراف: 131] أي: إنما سبب خيرهم وشرهم، أو سبب إصابة السيئة التي هي ذنوبهم، عند الله تعالى لا عند غيره، حتى يسندوها إليه ويطيّروا به { فَمَالِ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ } يعني المنافقين { لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } أي: قولاً، والجملة اعتراضية مسوقة لتعييرهم بالجهل وتقبيح حالهم والتعجب من كمال غباوتهم، إذ لو فقهوا شيئاً لعلموا مما يوعظون به، أن الله هو القابض الباسط، وأن النعمة منه تعالى بطريق التفضل الإحسان، والبلية بطريق العقوبة على ذنوب العباد.