الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً }

{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ } أي: لا يأكل بعضكم أموال بعض { بِٱلْبَٰطِلِ } أي: بما لم تبحه الشريعة كالربا والقمار والرشوة والغصب والسرقة والخيانة، وما جرى مجرى ذلك من صنوف الحيل { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً } أي: معارضة محضة كالبيع { عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } في المحاباة من جانب الآخذ والمأخوذ منه، وقرئ: (تجارةٌ) بالرفع على أن (كان) تامة، وبالنصب على أنها الناقصة، والتقدير: إلا أن تكون المعاملة أو التجارة أو الأموال، تجارة.

قال السيوطي في (الإكليل): في الآية تحريم أكل المال الباطل بغير وجه شرعيّ، وإباحة التجارة والربح فيها، وأن شرطها التراضي، ومن ههنا أخذ الشافعيّ رحمه الله اعتبار الإيجاب والقبول لفظاً، لأن التراضي أمر قلبيّ فلا بد من دليل عليه، وقد يستدل بها من لم يشترطهما إذا حصل الرضا. انتهى.

أي لأن الأقوال، كما تدل على التراضي، فكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعاً، فصح بيع المعاطاة مطلقاً.

وفي (الروضة الندية): حقيقة التراضي لا يعلمها إلا الله تعالى: والمراد ههنا أمارته، كالإيجاب والقبول، وكالتعاطي عند القائل به، وعلى هذا أهل العلم، لكونه لم يرد ما يدل على ما اعتبره بعضهم من ألفاظ مخصوصة، وأنه لا يجوز البيع بغيرها، ولا يفيدهم ما ورد في الروايات من نحو: (بعت منك وبعتك) فإنا لا ننكر أن البيع يصح بذلك، وإنما النزاع في كونه لا يصح إلا بها، ولم يرد في ذلك شيء، وقد قال الله تعالى: { تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ }. فدل ذلك على أن مجرد التراضي هو المناط، ولا بد من الدلالة عليه بلفظ أو إشارة أو كتابة، بأي لفظ وقع، وعلى أي صفة كان وبأي إشارة مفيدة، حصل. انتهى. وقوله تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } فيه وجهان: الأول: أن المعنى لا تقتلوا من كان من جنسكم من المؤمنين، فإن كلهم كنفس واحدة، والتعبير عنهم بالأنفس للمبالغة في الزجر عن قتلهم، بتصويره بصورة ما لا يكاد يفعله عاقل. والثاني: النهي عن قتل الإنسان نفسه، وقد احتج بهذه الآية عمرو بن العاص على مسألة التيمم للبرد، وأقره النبيّ صلى الله عليه وسلم على احتجاجه، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود، ولفظ أحمد عن عمرو بن العاص أنه قال: " لما بعثَه رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت، أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح. قال: فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له. فقال: " يا عمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب؟ " قال: قلت: نعم يا رسول الله! إني احتلمت في ليلة باردة، شديدة البرد. فأشفقت، إن اغتسلت أن أهلك. وذكرت قول الله عز وجل: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً " ".


السابقالتالي
2