الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً }

{ لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ } جملة مستأنفة لتقرير ما سبق من التنزيه، أي: لن يأنف من أن يكون عبداً لله، فإن عبوديته شرف يتباهى به { وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } من أن يكونوا عبيداً له تعالى، واحتج بالآية من زعم فضل الملائكة على الأنبياء.

قال الزمخشريّ: أي: ولا من هو أعلى منه قدراً وأعظم منه خطراً، وهم الملائكة الكروبيون، الذين حول العرش، كجبريل وميكائيل وإسرافيل، ومَن في طبقتهم.

ثم قال: فإن قلت: من أين دل قوله: { وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } على أن المعنى: ولا من فوقه؟ قلت: من حيث إن علم المعاني لا يقتضي غير ذلك، وذلك أن الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوّهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية، فوجب أن يقال لهم: لن يترفع عيسى عن العبودية، ولا من هو أرفع منه درجة، كأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية، فكيف المسيح؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة، تخصيص المقربين، لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة، ومثاله قول القائل:
وما مثله من يُجَاوِدُ حَاتِمٌ   ولا البحر ذو الأمواج يَلْتَجُّ زَاخِرُهْ
لا شبهة في أنه قصد بالبحر ذي الأمواج، ما هو فوق حاتم في الجود، ومن كان له ذوق فليذق، مع هذه الآية قوله:وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلاَ ٱلنَّصَارَىٰ } [البقرة: 120]، حتى يعترف بالفرق البين. انتهى.

قال البيضاويّ: وجوابه أن الآية: للرد على عبدة المسيح والملائكة، فلا يتجه ذلك، وإن سلم اختصاصها بالنصارى فلعله أراد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير دون التكبير، كقولك: أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرؤوس، وإن أراد به التكبير فغايته تفضيل المقربين من الملائكة، وهم الكروبيون الذين هم حول العرش، أو من أعلى منهم رتبة من الملائكة، على المسيح من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقاً والنزاع فيه. انتهى.

قال ناصر الدين في (الانتصاف): وقد كثر الاختلاف في تفضيل الأنبياء على الملائكة، فذهب جمهور الأشعرية إلى تفضيل الأنبياء، وذهب القاضي أبو بكر، منّا، والحليميّ وجماعة المعتزلة إلى تفضيل الملائكة، واتخذ المعتزلة هذه الآية عمدتهم في تفضيل الملائكة، من حيث الوجه الذي استدل به الزمخشريّ، ونحن بعون الله نشيع القول في المسألة من حيث الآية، فنقول: أورد الأشعرية على الاستدلال بها أسئلة: أحدها - أن سيدنا محمداً عليه أفضل الصلاة والسلام أفضل من عيسى عليه الصلاة والسلام، فلا يلزم من كون الملائكة أفضل من المسيح، أن تكون أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا السؤال إنما يتوجه إذ لم يدّع مورده أن كل واحد من آحاد الأنبياء، أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة، وبين طائفتنا في هذه الطرف خلاف (السؤال الثاني) أن قوله: { وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } صيغة جمع، تتناول مجموع الملائكة، فهذا يقتضي كونه مجموع الملائكة أفضل من المسيح.

السابقالتالي
2 3 4