الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً }

{ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } أي: بالإفراط في رفع شأن عيسى عليه السلام وادعاء ألوهيته، فإنه تجاوزٌ فوق المنزلة التي أُوتِيَهَا، وهي الرسالة، واستفيد حرمة الغلو في الدين وهو مجاوزة الحد. وفي الصحيح عن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله " وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البنانيّ، عن أنس بن مالك أن رجلاً قال: " يا محمد! يا سيدنا وابن سيدنا! وخيرنا وابن خيرنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس! عليكم بقولكم ولا يستهوينّكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله! ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل " ".

قال ابن كثير: تفرد به من هذا الوجه: { وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } أي: لا تصفوه بما يستحيل اتصافه به من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد، بل نزهوه عن جميع ذلك { إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ } صفة له مفيدة لبطلان ما وصفوه به من كونه ابناً لله تعالى { رَسُولُ ٱللَّهِ } خبر المبتدأ أعني: المسيح، أي: مقصور على مقام الرسالة لا يتخطاه { وَكَلِمَتُهُ } أي: مكوّن بكلمته وأمره الذي هو (كن) من غير واسطة أب ولا نطفة { أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ } أي: أوصلها إليها وحصلها فيها نفخ جبريل عليه السلام { وَرُوحٌ مِّنْهُ } أي: بتخليقه وتكوينه كسائر الأرواح المخلوقة، وإنما أضافَهُ إلى نفسه على سبيل التشريف والتكريم كما يقال: بيت الله، وناقة الله. وقيل: الروح: هو نفخ جبريل عليه السلام في جيب درع مريم، فحملت بإذن الله، سمى النفخ روحاً لأنه ريح تخرج من الروح، وإنما أضافه إلى نفسه لأنه وجد بأمره تعالى وإذنه.

قال أبو السعود: (من) لابتداء الغاية مجازاً، لا تبعيضية، كما زعمت النصارى، يحكى أن طبيباً نصرانياً للرشيد، ناظَرَ عليّ بن حسين الواقديّ المروزيّ ذات يوم، فقال له: إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى، وتلا هذه الآية، فقرأ الواقديّ:وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } [الجاثية: 13]، فقال: إذن يلزم أن يكون جميع تلك الأشياء جزءا منه، تعالى علوّاً كبيراً، فانقطع النصرانيّ وأسلم، وفرح الرشيد فرحاً شديداً، ووصل الواقدي بصلة فاخرة. وقيل: سمي روحاً، لإحيائه الموتى بإذن الله، وقيل: لإحيائه القلوب، كما سمي به القرآن لذلك، في قوله تعالى:وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [الشورى: 52]. وقيل: أريد بالروح الوحي الذي أوحي إلى مريم بالبشارة.

السابقالتالي
2 3 4