الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }

{ إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ } استئناف مسوق لبيان أن قبول التوبة من الله تعالى ليس على إطلاقه، كما ينبئ عنه وصفه تعالى بكونه تواباً رحيماً، بل هو مقيد بما سينطق به النص الكريم. قوله تعالى: { ٱلتَّوْبَةُ } مبتدأ وقوله تعالى: { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ } خبره. وقوله تعالى: { عَلَى ٱللَّهِ } متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار، ومعنى كون التوبة عليه سبحانه، صدور القبول عنه تعالى، وكلمة { عَلَى } للدلالة على التحقق البتة بحكم سبق الوعد حتى كأنه من الواجبات عليه سبحانه، والمراد بالسوء المعصية، صغيرة أو كبيرة - كذا في أبي السعود. { بِجَهَالَةٍ } متعلق بمحذوف وقع حالاً من فاعل. { يَعْمَلُونَ } أي: متلبسين بها، أي: جاهلين سفهاء، أو بـ { يَعْمَلُونَ } على أن الباء سببية، أي يعملونه بسبب الجهالة، والمراد بالجهل السفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل، لا عدم العلم، فإن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة: والجهلُ بهذا المعنى حقيقة واردة في كلام العرب، كقوله:
فنجهل فوق جهل الجاهلين   
{ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } أي: من زمان قريب، وظاهر الآية اشتراط وقوع التوبة عقب المعصية بلا تراخ، وإنها بذلك تنال درجة قبولها المحتم تفضلاً، إذ بتأخيرها وتسويفها يدخل في زمرة المصرّين، فيكون في الآية إرشاد إلى المبادرة بالتوبة عقب الذنب، والإنابة إلى المولى بعده فوراً، ووجوب التوبة على الفور مما لا يستراب فيه، إذ معرفة كون المعاصي مهلكات من نفس الإيمان وهو واجب على الفور، وتتمته في: (الإحياء).

إذا عرفت هذا، فما ذكره كثير من المفسرين من أن المراد من قوله تعالى: { مِن قَرِيبٍ } ما قبل حضور الموت - بعيد من لفظ الآية وسرها التي أرشدت إليه، أعني البدار إلى التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان، عياذاً بالله تعالى. (فإن قيل): من أين يستفاد قبول التوبة قبل حضور الموت؟ قلنا: يستفاد من الآية التي بعدها، ومن الأحاديث الوافرة في ذلك لا من قوله تعالى: { مِن قَرِيبٍ } بما أولوه، وذلك لأن الآية الثانية وهي قوله تعالى:وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ } [النساء: 18] صريحة في أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة، فبقي ما وراءه في حيز القبول. وقد روى الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يقبل توبة الْعبد ما لم يغرغر " رواه ابن ماجة والترمذيّ وقال: حسن غريب.

وروى أبو داود الطيالسيّ عن عبد الله بن عمرو قال: " من تاب قبل موته بعام تيب عليه، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه "

السابقالتالي
2