الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَٱلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ وَٱلْمُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ أُوْلَـٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً }

{ لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ } أي: الثابتون في العلم المستبصرون فيه، كعبد الله بن سلام.

قال الرازي: الراسخون في العلم: الثابتون فيه، وهم في الحقيقة المستدلون، لأن المقلد يكون بحيث إذا شُكُكَ يَشُكّ، وأما المستدل فإنه لا يتشكك ألبتة، فالراسخون هم المستدلون. { وَٱلْمُؤْمِنُونَ } أي: من الأميين اللاحقين بهم في الرسوخ بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: { يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ } من القرآن { وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } على سائر الأنبياء لاطلاعهم على كمالات المنزل عليك وأنه صدق ما أنزل من قبلك، فلا بد من الإيمان به أيضاً { وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ } قال ابن كثير: هكذا هو في مصاحف الأئمة، وكذا هو في مصحف أبيّ بن كعب.

قال الزمخشريّ: ارتفاع { ٱلرَّاسِخُونَ } على الابتداء، و { يُؤْمِنُونَ } خبره { وَٱلْمُقِيمِينَ } نصب على المدح، لبيان فضل الصلاة، وهو باب واسع قد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد. ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف. وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب، ولم يعرف مذاهب العرب، وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغبي عليه أن السابقين الأولين، الذين مَثَلُهُم في التوراة ومثلهم في الإنجيل، كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام، وذب المطاعن عنه، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم، وخرقاً يرفوه من يلحق بهم.

وقيل: هو عطف على: { بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ } أي يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء. وفي مصحف عبد الله (والمقيمون) بالواو. وهي قراءة مالك بن دينار والجحدريّ وعيسى الثقفيّ. انتهى.

وجوز عطف { ٱلْمُقِيمِينَ } على الضمير في { مِنْهُمْ } وعطفه على الضمير في { إِلَيكَ } ، والكتاب أنزل للنبيّ ولأتباعه، قال تعالى:يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [يونس: 57] كذا في حواشي الشذور، وقد أشار الزمخشريّ بقوله (كانوا أبعد همة) إلى ردّ ما نقل، أن عثمان رضي الله عنه، لما فرغ من المصحف أتى به إليه، فقال: قد أحسنتم وأجملتم، أرى شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنتها، ولو كان المُمْلي من هذيل، والكاتب من قُريش، لم يوجد فيه هذا.

قال الحافظ السخاويّ: هذا الأثر ضعيف، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع، لأن عثمان رضي الله عنه جُعِل للناس إماما يقتدرون به، فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها؟ وقد كتب مصاحف سبعة وليس فيها اختلاف قط، إلا فيما هو من وجوه القراءات، وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع، كيف يقيمه غيرهم؟

وتأول قوم اللحن في كلامه (على تقدير صحته عنه) بأن المراد الرمز والإيماء كما في قوله:
مَنْطِقٌ رائع وتلحن أحيا   ناً، وخير الكلام ما كان لحنَا
أي: المراد به الرمز، بحذف بعض الحروف خطّاً، كألف (الصّابرين) مما يعرفه القراء إذا رأوه، وكذا زيادة بعض الحروف، كذا في (عناية الراضي) { وَٱلْمُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ } رفعه بالعطف على { ٱلرَّاسِخُونَ } أو على الضمير في { يُؤْمِنُونَ } أو على أنه مبتدأ، والخبر { أُوْلَـٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ } والوجوه المذكورة تجري في { ٱلْمُقِيمِينَ } على قراءة الرفع { وَٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } يعني: والمصدقون بوحدانية الله تعالى وبالبعث بعد الموت وبالثواب والعقاب، وإنما قدم الإيمان بالأنبياء والكتب وما يصدقه من اتباع الشرائع، لأنه المقصود في هذا المقام، لأنه لبيان حال أهل الكتاب وإرشادهم، وهم كانوا يؤمنون ببعض ذلك ويتركون بعضه، فبين لهم ما يلزمهم ويجب عليهم { أُوْلَـٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } يعني: الجنة، لجمعهم بين الإيمان الصحيح والعمل الصالح.

السابقالتالي
2