الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيراً }

{ فَبِظُلْمٍ } أي: بسبب ظلم عظيم؛ فالتنوين للتفخيم، وهو جامع لتفصيل نقض الميثاق وما عطف عليه مما استحلوه، بعد أن حرمته التوراة { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } أي: تلبسوا باليهودية، وفيه تعظيم ظلمهم أيضاً، إذ صدر عنهم بعد ما ادعوا أنهم من أهل التوراة والرجوع إلى الحق { حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } قال ابن كثير: هذا التحريم قد يكون قدريَاً، بمعنى: أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في كتابهم، وحرفوا وبدلوا أشياء كانت حلالاً لهم، فحرموها على أنفسهم تضييقاً وتنطعاً، ويحتمل أن يكون شرعياً، بمعنى: أنه تعالى حرّم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالاً لهم قبل ذلك، كما قال تعالى:كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوْرَاةُ } [آل عمران: 93]، أي: ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، من لحوم الإبل وألبانها، ثم إنه تعالى حرّم أشياء كثيرة في التوراة، كما قال في سورة الأنعام:وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ وَٱلْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ ٱلْحَوَايَآ أَوْ مَا ٱخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَٰدِقُونَ } [الأنعام: 146]، أي: إنما حرمنا عليهم ذلك، لطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه.

ولما ذكر ظلمهم ذكر مجامع من جزئياته بقوله تعالى: { وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي: الذي لا أوضح منه ولا أسهل ولا أعظم { كَثِيراً } أي: ناساً كثيراً، أوْ صدّاً كثيراً، فهم صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق، وهذه سجية لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه، ولهذا كانوا أعداء الرسل وقتلوا خلقاً من الأنبياء، وكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم.