الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلْمُنَٰفِقِينَ وَٱلْكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً }

{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَٰبِ } قال المفسرون: إن المشركين بمكة كانوا في مجالسهم يخوضون في ذكر القرآن ويستهزئون به، فنهى الله تعالى المسلمين عن القعود معهم بقوله:وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيۤ ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } [الأنعام: 68]، وهذه الآية من سورة الأنعام وهي مكية، فامتنع المسلمون عن القعود معهم، ولما قدموا المدينة كانوا يجلسون مع اليهود والمنافقين، وكان اليهود يستهزئون بالقرآن، فنزلت هذه الآية: { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَٰبِ } يعني في سورة الأنعام { أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا } يعني يجحد بها { وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } وفيها دلالة على أن المنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن خوطب به خاصة، منزل على الأمة وأن مدار الإعراض عنهم، هو العلم بخوضهم في الآيات، ولذلك عبر عن ذلك تارة بالرؤية وأخرى بالسماع، وأن المراد بالإعراض إظهار المخالفة بالقيام عن مجالسهم، لا الإعراض بالقلب أو بالوجه فقط { إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } أي: إذا قعدتم معهم دل على رضاكم بالكفر بالآيات والاستهزاء بها، فتكونون مثلهم في الكفر واستتباع العذاب، فاجتماعكم بهم ههنا سبب اجتماعكم في جهنم، كما قال: { إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلْمُنَٰفِقِينَ وَٱلْكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } لأنهم لما شاركوهم في الكفر، واجتمعوا على الاستهزاء بالآيات في الدنيا، جمعهم الله في عذاب جهنم يوم القيامة.

تنبيه

قال بعض مفسري الزيدية: اعلم أنه لا خلاف في تحريم القعود والمخالطة، إذا كان ذلك يوهم بأن القاعد راضٍٍ، ولا خلاف أنه يحرم إذا خشي الافتتان، ولا خلاف أنه يجوز القعود للتنكير عليهم والدفع لهم.

قال الحاكم: ولذلك يحضر العلماء مع أهل الضلالة يناظرونهم، ولهم بذلك الثواب العظيم، وأما إذا خلا عما ذكرنا، وكان لا يوهم بالرضا ولا يفتتن ولا ينكر عليهم، فاختلف العلماء في ذلك، فمنهم من أوجب المثل، لظاهر الآية.

قال الحاكم: روي أن قوماً أُخذوا على شراب في عهد عمر بن عبد العزيز، فأمر بضربهم الحدّ، فقيل: فيهم صائم، فتلا قوله تعالى: { فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ } - إلى قوله - { إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } وهذا أيضاً ظاهر حديث: " لا يحل لعين ترى الله يُعْصى، فتطرف حتى تغير وتنتقل ".

وقال أبو عليّ وأبو هاشم: إن أنكر بقلبه لم يجب عليه أكثر من ذلك، وجاز له القعود، يعني مع عجزه عن الإنكار باليد أو باللسان، وعدم تأثير ذلك.

أقول: ما قالاه مخالف لظاهر الآية، فلا عبرة به.

وقال القاضي والحاكم: أما لو كان له حق في تلك البقعة، فله ألا يفارق، كمن يحضر الجنائز مع النوح، أو الولائم، فيسمع المنكر فيسعه أن يقعد، والنكير على قدر الإمكان واجب عليه.

السابقالتالي
2