الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً }

{ وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ } أي: يخالفه ويعاديه { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ } أي: اتضح له الحق { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي: غير ما هم مستمرون عليه من عقد وعمل، وهو الدين القيم { نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ } أي: نجعله والياً مرجحاً ما تولاه من المشاقة ومتابعة غير سبيلهم فزينه له تزين الكفر على الكفرة، استدراجاً له ليكون دليلاً على شدة العقوبة في الآخرة، كما قال تعالى:فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [القلم: 44]، وقال تعالى:فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف: 5] وقال سبحانه:وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأنعام: 110]، { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ } أي: ندخله إياها { وَسَآءَتْ مَصِيراً } وجعل النار مصيره في الآخرة، لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا النار يوم القيامة، كما قال تعالى:ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ... } [الصافات: 22]، وقال تعالى:وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً } [الكهف: 53].

قال الإمام ابن كثير: قوله تعالى: { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } هذا ملازم للصفة الأولى، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقاً، فإنه قد ضمنت لهم العصمة، في اجتماعهم من الخطأ، تشريفاً لهم وتعظيماً لنبيهم، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك، ومن العلماء من ادعى تواتر معناها، والذي عوّل عليه الشافعيّ رحمه الله في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته، هذه الآية الكريمة، بعد الترويّ والفكر الطويل، وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها، وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها على ذلك. انتهى.

وقال بعض مفسريّ الزيدية: الآية دلت على أن مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم كبيرة، وقد تبلغ إلى الكفر، ودلت على أن الجهل عذر، لقوله: { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ } ودلت على أن مخالفة الإجماع كبيرة، وأنه دليل كالكتاب والسنة. لكن إنما يكون كبيرة إذا كان نقله قطعيّاً، لا آحاديّاً. انتهى.

وقال المهايميّ: في الآية دليل على حرمة مخالفة الإجماع، لأنه عز وجل رتب الوعيد الشديد على مشاقة الرسول ومخالفة الإجماع، فهو إما لحرمة أحدهما وهو باطل، إذ يقبح أن يقال من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحدّ، إذ لا دخل لأكل الخبز فيه، أو لحرمة الجمع بينهما وهو أيضاً باطل، لأن مشاقة الرسول حرام وإن لم يضم إليها غيرها، أو لحرمة كل واحد منهما وهو المطلوب. انتهى.

ونقل الخفاجيّ: قصة استدلال الشافعيّ من هذه الآية عن الإمام المزنيّ قال: كنت عند الشافعيّ يوماً، فجاءه شيخ عليه لباس صوف وبيده عصا، فلما رآه ذا مهابة استوى جالساً، وكان مستندا لأسطوانة، فاستوى وسوى ثيابه، فقال له: ما الحجة في دين الله؟ قال: كتابه قال: وماذا؟ قال: سنة نبيه، قال: وماذا؟ قال: اتفاق الأمة، قال: من أين هذا الأخير؟ أهو في كتاب الله؟ فتدبر ساعة ساكتاً، فقال له الشيخ: أجّلتك ثلاثة أيام بلياليهن، فإن جئت بآية، وإلا فاعتزل الناس.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9