الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }

{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ } أي: اخشوه أن تخالفوه فيما أمركم به أو نهاكم عنه. ثم نبههم على اتصافه بكمال القدرة الباهرة، لتأييد الأمر بالتقوى وتأكيد إيجاب الامتثال به على طريق الترغيب والترهيب، بقوله تعالى { ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } أي: فرّعكم من أصل واحد وهو نفس أبيكم آدم، وخلقهُ تعالى إياهم على هذا النمط البديع مما يدل على القدرة العظيمة، ومن قدر على نحوه كان قادراً على كل شيء، ومنه عقابهم على معاصيهم. فالنظر فيه يؤدي إلى الاتقاء من موجبات نقمته، وكذا جعلُه تعالى إياهم صنواناً مفرعة من أرومة واحدة من موجبات الاحتراز عن الإخلال بمراعاة ما بينهم من حقوق الأخوة. كما ينبئ عنه ما يأتي من الإرشاد إلى صلة الأرحام، ورعاية حال الأيتام، والعدل في النكاح وغير ذلك. وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجليّ " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مضر، وهم مجتابو النمار (أي من عريهم وفقرهم) قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } حتى ختم الآية، ثم قال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } [الحشر: 18]، ثم حضهم على الصدقة فقال: " تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره " ، وذكر تمام الحديث. وهكذا رواه أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خطبة الحاجة. وفيها: ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ }.. الآية.

{ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أي: من نفسها، يعني من جنسها ليكون بينهما ما يوجب التآلف والتضامّ، فإن الجنسية علة الضم، وقد أوضح هذا بقوله تعالى:وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الروم: 21] { وَبَثَّ مِنْهُمَا } أي: نشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها، بطريق التوالد والتناسل. { رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } أي: كثيرة. وترك التصريح بها للاكتفاء بالوصف المذكور.

{ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ } تكرير للأمر وتذكير لبعض آخر من موجبات الامتثال به، فإن سؤال بعضهم بعضاً بالله تعالى بأن يقولوا: أسألك بالله وأنشدك الله، على سبيل الاستعطاف، يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه. وتعليق الاتقاء بالاسم الجليل لمزيد التأكيد والمبالغة في الحمل على الامتثال بتربية المهابة وإدخال الروعة، ولوقوع التساؤل به لا بغيره من أسمائه تعالى وصفاته. و: { تَسَآءَلُونَ } أصله تتساءلون، فطرحت إحدى التاءين تخفيفاً، وقرئ بإدغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس، وقرئ تسألون (من الثلاثي) أي: تسألون به غيركم، وقد فسر به القراءة الأولى والثانية، وحمل صيغة التفاعل على اعتبار الجمع، كما في قولك: رأيت الهلال وتراءيْناه - أفاده أبو السعود - وقوله تعالى: { وَٱلأَرْحَامَ } قرأ حمزة بالجر عطفاً على الضمير المجرور، والباقون بالنصب عطفاً على الاسم الجليل، أي: اتقوا الله والأرحام أن تقطعوها، فإن قطيعتها مما يجب أن يتقى، أو عطفاً على محل الجار والمجرور، كقولك مررت بزيدٍ وعمراً.

السابقالتالي
2 3