الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } * { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـآبٍ }

{ قَالَ } أي: داود { لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ } أي: طلب نعجتك التي أنت أحوج إليها ليضمها { إِلَىٰ نِعَاجِهِ } أي: مع استغنائه عن هذا الضم { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ } أي: الإخوان الأصدقاء المتخالطين في شؤونهم { لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } أي: بغى الأعداء مع أن من واجب حقهم النصفة على الأقل، إن لم يقوموا بفضيلة الإيثار { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي: فإنهم لا يبغون { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } أي: وهم قليل. و { مَّا } مزيدة للإبهام والتعجيب من قلتهم.

قال الشهاب: فيه مبالغة من وجوه: وصفهم بالقلة، وتنكير { وَقَلِيلٌ } وزيادة { مَّا } الإبهامية. والشيء إذا بولغ فيه كان مظنة للتعجب منه، فكأنه قيل: ما أقلهم.

وفي قضائه عليه السلام هذا، من الحكمة وفصل الخطاب ما يهيج الأفئدة ويقر عين المغبون. ذلك أنه صدع بالحق أبلغ صدع فجهر بظلم خصمه وبغيه جهراً لا محاباة فيه ولا مواربة فأقر عين المظلوم. وعرف الباغي ظلمه وحيفه، وأن سيف العدل والإنصاف فوقه. ثم نفس عن قلب المظلوم البائس، وروّح عن صدره بذكر ما عليه الأكثر من هذه الخلة - خلة البغي وعدم الإنصاف - مع الخلطة و الخلة، ليتأسى ويتسلى كما قيل: (إن التأسي روح كل حزين) ثم أكد الأمر بقلة القائمين بحقوق الأخوة، ممن آمن وعمل صالحا، فكيف بغيرهم؟ وكلها حكم وغرر ودرر، حقائق تنطبق على أكثر هذا السواد الأعظم من الناس، الذين يدعون المحبة، والصداقة. ولعظم شأن حقوق المحبة أسهب في آدابها علماء الأخلاق، إسهابا نوعوا فيه الأبواب، ولونو فيه الفصول. ومع ذالك لا تزال الشكوى عامة. وقد امتلأت من منظومها ومنثورها كتب الأدب، كما لا يخفى على من له إلمام به. وبالله التوفيق.

{ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } أي: ابتليناه بتلك الحكومة { فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } أي: ما استغفر منه { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ } أي: لقربا { وَحُسْنَ مَـآبٍ } أي مرجعاً حسناً و كرامة، في الآخرة.

تنبيهات

الأول: للمفسرين في هذا النبأ أقوال عديدة و وجوه متنوعة. مرجعها إلى مذهبين: مذهب من يرى أنها تشير تعريضا إلى وزر ألمّ به داود عليه السلام ثم غفر له. ومذهب من يرى أنها حكومة في خصمين لا إشعار بذلك. فممن ذهب إلى الأول ابن جرير. فإنه قال: هذا مَثَل ضربه الخصم المتسوّرون على داود محرابه. وذلك أن داود كانت له، فيما قيل، تسع وتسعون امرأة. وكانت للرجل الذي أغزاه حتى قتل امرأة واحدة فلما قُتِل نكح، فيما ذكر، داوُد امرأتَه. ثم لما قضى للخصمين بما قضى، علم أنه ابتلي. فسأل غفران ذنبه وخرّ ساجداً لله وأناب إلى رضا ربه، وتاب من خطيئته.

السابقالتالي
2 3 4 5