الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱلصَّافَّاتِ صَفَّا } * { فَٱلزَّاجِرَاتِ زَجْراً } * { فَٱلتَّٰلِيَٰتِ ذِكْراً } * { إِنَّ إِلَـٰهَكُمْ لَوَاحِدٌ }

افتتح تعالى هذه السورة بالقسم ببعض مخلوقاته، إظهاراً لعظم شأنها وكبر فوائدها، وتنبيهاً إلى الاعتبار بصفتها وما تستدعيه من سِمتها. { وَٱلصَّافَّاتِ } جمع صافة، أي: طائفة صافة، أو جماعة صافة. فيكون في المعنى جمع الجمع، أو على تأنيث مفرده باعتبار أنه ذات ونفس، والمراد بالصافات الملائكة. لقيامها مصطفة في مقام العبودية لمالك الملك. من قوله تعالى:وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلصَّآفُّونَ } [الصافات: 165] أو لصفها أجنحتها في الهواء واقفة منتظرة لأمر الله تعلى. و { فَٱلزَّاجِرَاتِ } أي: الناس عن المعاصي، بإلهام الخير، من (الزجر) بمعنى المنع والنهي، أو الزاجرات الأجرام العلوية والسفلية بالتدبير المأمور به. من (الزجر) بمعنى السوق والحث. و(التاليات) أي: آياته تعالى على أنبيائه عليهم السلام، وقيل: الصافات الطير. من قوله تعالى:وَٱلطَّيْرُ صَآفَّاتٍ } [النور: 41] و(الزاجرات)، كل ما زجر عن معاصي الله. و(التاليات) كل من تلا كتاب الله. أو هم العلماء الصافون في العبادات أقدامهم، الزاجرون عن الكفر، والفسوق بالحجج والنصائح، التالون آيات الله وشرائعه. أو هم الغزاة الصافون في الجهاد, والزاجرون الخيل أو العدوّ، التالون لذكر الله، لا يشغلهم فيها عنها مبارزة العدوّ. وقد ذكر غير هذا، مما يشمله اللفظ ولا يأباه. وبالجملة، فالعطف إما لاختلاف الذوات أو الصفات. وإِيثارُ الفاء على (الواو) لقصد الترتيب والتفاضل طرداً أو عكساً، أما الأول فاعتناءً بالأهم فالأهم. وأما الثاني فالترقي إلى الأعلى. و { صَفَّا } ، و { زَجْراً } ، مصدر مؤكد، وكذا { ذِكْراً } ، ويجوز فيه كونه مفعولاً به. قال الناصر: وفي هذه الآية دلالة على مذهب سيبويه والخليل في مثل:وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ } [الليل: 1-2]، فإنهما يقولان: الواو الثانية وما بعدها عواطف. وغيرهما يذهب إلى أنها حروف قسم. فوقوع الفاء في هذه الآية موقع الواو. والمعنى واحد، إلا أن ما تزيده الفاء من ترتيبها، دليل واضح على أن الواو الواقعة في مثل هذا السياق، للعطف لا للقسم. انتهى.

وقوله تعالى: { إِنَّ إِلَـٰهَكُمْ لَوَاحِدٌ } جواب للقسم، وفي تأكيد المقسم عليه بتقديم الإقسام وتوكيد الجملة، اهتمام به بتحقيق الحق فيه الذي هو التوحيد، وتمهيد لما يعقبه من البرهان الناطق به، وهو قوله تعالى:

{ رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ... }.