الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ } * { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ }

{ إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ } أي: اللحى. أي واصلة إليها وملزوزة إليها { فَهُم مُّقْمَحُونَ } أي: ناصبو رؤوسهم، غاضّو أبصارهم. يقال: أقمح الرجل، رفع رأسه وغض بصره. وأقمح الغلّ الأسير، إذا ترك رأسه مرفوعاً لضيقه، فهو مقمح، وذلك إذا لم يتركه عمود الغلّ الذي ينخس ذقنه، أن يطأطئ رأسه. قال ابن الأثير: " هي " في قوله تعالى: { فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ } كناية عن الأيدي لا عن الأعناق؛ لأن الغلّ يجعل اليد تلي الذقن والعنق، وهو مقارب للذقن. وقال الأزهريّ: أراد عز وجل أن أيديهم لما غلَّت عند أعناقهم، رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صُعُداً، كالإبل الرافعة رؤوسها، وهذا معنى قول ابن كثير: اكتفى بذكر الغل في العنق، عن ذكر اليدين، وإن كانتا مرادتين، لما دل السياق عليه. فإن الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق.

{ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } قال الزمخشريّ: مثل تصميمهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم، بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين، في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رؤوسهم له، وكالحاصلين بين سدّين، لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم، في ألا تأمل لهم ولا تبصر، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله. انتهى. أي: فالمجموع استعارة تمثيلية. وفي (الانتصاف) للناصر: إذا فرقت هذا التشبيه، كان تصميمهم على الكفر مشبهها بالأغلال، وكان استكبارهم عن قبول الحق، وعن الخضوع، والتواضع لاستماعه، مشبهاً بالإقماح؛ لأن المقمح لا يطأطئ رأسه.

وقوله: { فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ } تتمة للزوم الإقماح لهم، وكان عدم الفكر في القرون الخالية مشبها بسدّ من خلفهم، وعدم النظر في العواقب المستقبلة مشبهاً بسد من قدامهم. انتهى. فيكون فيه تشبيه متعدد. قال الشهاب: والتمثيل أحسن منه. انتهى.

ثم قال الناصر: يحتمل أن تكون الفاء في: { فَهُم مُّقْمَحُونَ } للتعقيب، كالفاء الأولى، أو للتسبب، ولا شك أن ضغط اليد مع العنق في الغلّ يوجب الإقماح؛ فإن اليد، والعياذ بالله، تبقى ممسكة بالغل تحت الذقن، دافعة بها ومانعة من وطأتها. ويكون التشبيه أتم على هذا التفسير، فإن اليد متى كانت مرسلة مخلاة، كان للمغلول بعض الفرج بإطلاقها , ولعله يتحيل بها على فكاك الغلّ، ولا كذلك إذا كانت مغلولة. فيضاف إلى ما ذكرناه من التشبيهات المفرقة، أن يكون انسداد باب الحيل عليهم في الهداية والانخلاع من ربقة الكفر المقدر عليهم، مشبهاً بغلّ الأيدي؛ فإن اليد آلة الحيلة إلى الخلاص. انتهى.

وإنما اختير هذا؛ لأن ما قبله وما بعده في ذكر أحوالهم في الدنيا، وجعله أبو حيان لبيان أحوالهم في الآخرة، على أنه حقيقة لا تمثيل فيه، فورد عليه أن يكون أجنبياً في البين، وتوجيهه بأنه كالبيان لقوله:حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ } [يس: 7]، والأول أدق، وبالقبول أحق.