الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }

{ ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي: عندما يجحدون ما اجترموه في الدنيا، ويحلفون ما فعلوه، فيختم الله على أفواههم، ويستنطق جوارحهم، قال الرازي: وفي الختم على الأفواه وجوه، أقواها أن الله يسكت ألسنتهم فلا ينطقون بها، وينطق جوارحهم فتشهد عليهم، وإنه في قدرة الله يسير، أما الإسكات فلا خفاء فيه، وأما الإنطلاق فلأن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة. فكما جاز تحركه بها، جاز تحرك غيره بمثلها، والله قادر على الممكنات. والوجه الآخر، أنهم لا يتكلمون بشيء، لانقطاع أعذارهم وانهتاك أستارهم، فيقفون ناكسي الرؤوس وقوف القنوط اليؤوس، لا يجد عذراً فيعتذر، ولا مجال توبة فيستغفر، وتكلم الأيدي ظهور الأمور بحيث لا يسع معه الإنكار، حتى تنطق به الأيدي والأبصار. كما يقول القائل: (الحيطان تبكي على صاحب الدار) إشارة إلى ظهور الحزن، والأول صحيح. انتهى. أي: لإمكانه وعدم استحالته، فلا تتعذر الحقيقة. ويؤيده آيةوَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [فصلت: 21].

ومن لطائف بعض أدباء العصر ما نظمه في الفونغراف، مستشهداً به في ذلك، فقال:
ينطق الفونغراف لنا دليل   على نطق الجوارح والجمادِ
وفيه لكل ذي نظرٍ مثالٌ   على بدء الخليقة والمعادِ
يدير شؤونه فرد بصُورٍ   به الأصوات تجري كالمدادِ
فيثبت رسمها قلم بلوح   على وفق المشيئة والمرادِ
وبعد فراغها تمضي كبرق   ولا أثر لها في الكون بادِي
تظن بأنها ذهبت جفاء   كما ذهبت بريحٍ قوم عادِ
وأحلى رنّها فيه لتبقي   كأرواح تجرد عن موادِّ
متى شاء المدير لها معاداً   ورام ظهورها في كل نادِ
يدبر الصور بالآلات قسرا   فينشر ميتها بعد الرقادِ
وهذي آلة من صنع عبدٍ   فكيف بصنع خلاّق العبادِ
تبارك من يعيد الخلق طرا   بنفخة صوره يوم التنادِ