الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }

{ فَقَالُواْ } أي: بلسان الحال والميل إلى المهالك الشيطانية { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } أي: فاستعدوا لضلالهم وكفرهم لأن تجعل أمكنتهم تعمل فيها المطيّ والرواحل، لتباعد ما بينها وبين ما يسيرون إليه، وحصل ذلك بما بدلوا به من بلادهم الحسنة { وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } أي: حتى حل بهم ما حل { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أي: يتحدث الناس بهم ويتعجبون من نبئهم وكيف مكر الله بهم، وفرق شملهم بعد الاجتماع والعيش الهنيّ { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي: فرّقناهم كل تفريق، حتى اتّخذه الناس مثلاً مضروباً. يقولون (تفرقوا أيادي سبا، وذهبوا أيدي سبا) بألف مقصورة. قال الأزهريّ: العرب لا تهمز سبأ في هذا الموضع؛ لأنه كثير في كلامهم فاستثقلوا فيه الهمز، وإن كان أصله مهموزاً، والذهاب معلوم، والأيادي جمع أيد، والأيدي جمع يد، وهي بمعنى الجارحة، وبمعنى النعمة، وبمعنى الطريق، وهو المراد.

قال في التهذيب: قولهم ذهبوا أيدي سبا، أي: متفرقين. شبهوا بأهل سبأ لما مزقهم الله في الأرض كل ممزق، فأخذ كل طائفة منهم طريقاً على حدة. و(اليد) الطريق. يقال: أخذ القوم يد بحر.. فقيل للقوم إذا ذهبوا في جهات مختلفة (ذهبوا أيدي سبا) أي: فرقتهم طرقهم التي سلكوها، كما تفرق أهل سبا في مذاهب شتى.

قال ابن مالك: إنه مركب تركيب خمسة عشر، مبنيا على السكون. وفي (زهر الأكم، في الأمثال والحكم) أن سبا كانت أخصب بلاد الله، كما قال تعالى:جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } [سبأ: 15] قيل: كانت مسافة شهر للراكب المجدّ، يسير الماشي في الجنان من أولها إلى آخرها لا يفارقه الظل مع تدفق الماء وصفاء الأنهار واتساع الفضاء، فمكثوا مدة في أمن لا يعاندهم أحد إلا قصموه، وكانت في بدء الأمر تركبها السيول، فجمع لذلك حميرُ أهلَ مملكته وشاورهم، فاتخذوا سدّاً في بدء جريان الماء ورصفوه بالحجارة والحديد، وجعلوا فيه مخارق للماء. فإذا جاءت السيول انقسمت على وجه يعمهم نفعه في الجنات والمزروعات، فلما كفروا نعم الله تعالى، ورأو أن ملكهم لا يبيده شيء، وعبدوا الشمس، سلط الله على سدّهم فأرة فخرقته، وأرسل عليهم السيل فمزقهم الله كل ممزق، وأباد خضراءهم، وتبددوا في البلاد. فلحق الأزد بعمان، وخزاعة ببطن مرّ، والأوس والخزرج بيثرب، وآل جفنة بأرض الشام، وآل جذيمة الأبرش بالعراق.

وقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس؛ " أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو؟ أرجل أم امرأة؟ أم أرض؟ قال صلى الله عليه وسلم: " بل هو رجل ولد له عشرة، فسكن اليمن منهم ستة، وبالشام منهم أربعة. فأما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير. وأما الشامية فلخم وجذام وعاملة وغسان "

السابقالتالي
2 3