الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } * { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ }

{ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } وهو ما يوافق شهواتهم وأهواءهم { وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ } أي: التي هي المطلب الأعلى { هُمْ غَافِلُونَ } أي: لا يخطرونها ببالهم. فهم جاهلون بها تاركون لعملها.

لطائف

قال الزمخشري: قوله تعالى: { يَعْلَمُونَ } بدل من قوله (لا يعلمون) وفي هذا الإبدال من النكتة، أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه ويسدّ مسدّه، ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا. وقوله: { ظَاهِراً } يفيد أن للدنيا ظاهراً وباطناً، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها. وباطنها وحقيقتها أنها مجاز إلى الآخرة، يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة. انتهى.

وناقش الكرخيّ في إبدال { يَعْلَمُونَ } قال: إن الصناعة لا تساعد عليه. لأن بدل فعل مثبت، من فعل منفيّ لايصح. واستظهر قول الحوفيّ؛ أن { يَعْلَمُونَ } استئناف في المعنى.

وأشار الناصر إلى جوابه بأن في تنكير { ظَاهِراً } تقليلا لمعلومهم. وتقليله يقربه من النفي، فيطابق المبدل منه.

أقول: التقليل هو الوحدة المشار لها بقول الزمخشري: وفي تنكير الظاهر أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً، من جملة الظواهر. وأما قول أبي السعود: وتنكير { ظَاهِراً } للتحقير والتخسيس دون الوحدة كما توهم، فغفلة عن مشاركتها للتعليل الذي به يطابق البدل المبدل منه. فافهم.

ثم أنكر عليهم قصر نظرهم على ما ذكر من ظاهر الحياة الدنيا، مع الغفلة عن الآخرة بقوله: { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ } أي: يحدثوا التفكر في أنفسهم، الفارغة من الفكر والتفكر. فالمجرور ظرف للتفكر، وذكره لزيادة التصوير. إذ الفكر لا يكون إلا في النفس. والتفكر لا متعلق له، لتنزيله منزلة اللازم. وجوز كون المجرور مفعول (يتفكروا) لأنه يتعدى بـ (في) أي: أو لم يتفكروا في أمر أنفسهم. فالمعنى حثهم على النظر في ذواتهم وما اشتملت عليه من بديع الصنع، وقوله تعالى: { مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } متعلق بقولٍ أو علمٍ. يدل عليه السياق. أي: ألم يتفكروا فيقولوا أو فيعلموا. وقال السمين: (ما) نافية.

وفي هذه الجملة وجهان: أحدهما: أنها مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها. والثاني: أنها معلقة للتفكر. فيكون في محل نصب على إسقاط الخافض. انتهى. والباء في قوله (بالحق) للملابسة. أي: ما خلقها باطلا ولا عبثا بغير حكمة بالغة، ولا لتبقى خالدة، وإنما خلقها مقرونة بالحق، مصحوبة بالحق { وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } أي: وبتقدير أجل مسمى، لا بدّ لها من أن تنتهي إليه، وهو قيام الساعة ووقت الحساب والثواب والعقاب. ولذا عطف عليه قوله: { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ }.