{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلضَّآلُّونَ } أي الذين ضلوا سبيل الحق وأخطأوا منهاجه. وقد أشكل على كثير قوله تعالى { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } مع أن التوبة عند الجمهور مقبولة كما في الآية قبلها، وقوله سبحانه:{ وَهُوَ ٱلَّذِي يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [الشورى: 25]. وغير ذلك، فأجابوا: بأن المراد عند حضور الموت. قال الواحديّ في الوجيز: لن تقبل توبتهم لأنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت، وتلك التوبة لا تقبل - انتهى، أي: كما قال تعالى:{ وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ } [النساء: 18] الآية. وقيل عدم قبول توبتهم كناية عن عدم توبتهم أي: لا يتوبون. كقوله:{ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [البقرة: 6، ويس: 10]. وإنما كني بذلك تغليظاً في شأنهم وإبرازاً لحالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة، وقيل: لأن توبتهم لا تكون إلا نفاقاً لارتدادهم وازديادهم كفراً. وبقي للمفسرين وجوه أخرى، هي في التأويل أبعد مما ذكر، ولا أرى هذه الآية إلا كآية النساء:{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ } [النساء: 137] الخ. وكلاهما مما يدل صراحة على أن من تكررت ردته لا تقبل توبته، وإلى هذا ذهب إسحاق وأحمد كما قدمنا، وذلك لرسوخه في الكفر. وقد أشار القاشانيّ: إلى أن هذه الآية مع التي قبلها يستفاد منها أن الكفرة قسمان في باب العناد، وعبارته عند قوله تعالى:{ كَيْفَ يَهْدِي ٱللَّهُ قَوْماً } [آل عمران: 86]: أنكر تعالى هدايته لقوم قد هداهم أولاً بالنور الاستعدادي إلى الإيمان ثم بالنور الإيمانيّ إلى أن عاينوا حقية الرسول وأيقنوا بحيث لم يبق لهم (كذا). وانضم إليه الاستدلال العقليّ بالبينات، ثم ظهرت نفسهم بعد هذه الشواهد كلها بالعناد واللجاج وحجبت أنوار قلوبهم وعقولهم وأرواحهم الشاهدة ثلاثتها بالحق للحق، لشؤم ظلمهم وقوة استيلاء نفوسهم الأمارة عليهم الذي هو غاية الظلم فقال:{ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [آل عمران: 86] لغلظ حجابهم وتعمقهم في البعد عن الحق وقبول النور. وهم قسمان: قسم رسخت هيأة استيلاء النفوس الأمارة على قلوبهم فيهم وتمكنت، وتناهوا في الغي والاستشراء، وتمادوا في البعد والعناد، حتى صار ذلك ملكة لا تزول. وقسم لم يرسخ ذلك فيهم بعد، ولم يصر على قلوبهم رَيْناً، ويبقى من وراء حجاب النفس مسكة من نور استعدادهم، عسى أن تتداركهم رحمة من الله وتوفيق فيندموا ويستجيبوا بحكم غريزة العقول. فأشار إلى القسم الأول بقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } إلى آخره، وإلى الثاني بقوله:{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ } [آل عمران: 89]، بالمواظبة على الأعمال والرياضات، ما أفسدوا - انتهى.