الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ }

{ رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } وهذا من تتمة كلام الراسخين في العلم، وذلك لأنهم لما طلبوا من الله تعالى أن يصونهم عن الزيغ وأن يخصهم بالهداية والرحمة، فكأنهم قالوا: ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا، فإنها منقضية منقرضة، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة، فإنها القصد والمآل. فإنا نعلم أنك يا إلهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة، ونعلم أن وعدك لا يكون خلفاً، فمن زاغ قلبه بقى هناك في العذاب أبداً، ومن منحتَه الرحمة والهداية بقي هناك في السعادة والكرامة أبداً. فالغرض الأعظم من ذلك الدعاء، ما يتعلق بالآخرة - أفاده الرازيّ - ثم قال: احتج الجبائيّ بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق، قال: وذلك لأن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد بدليل قوله تعالى:أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } [الأعراف: 44]. والوعد والموعد والميعاد واحد. وقد أخبر في هذه الآية أنه لا يخلف الميعاد. فكان هذا دليلاً على أنه لا يخلف في الوعيد. والجواب: لا نسلّم أنه تعالى يوعد الفساق مطلقاً، بل ذلك الوعيد عندنا مشروط بشرط عدم العفو، كما أنه بالاتفاق مشروط بشرط عدم التوبة، فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل، فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل، سلمنا أنه يوعدهم، ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد. أما قوله تعالى:فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } [الأعراف: 44]. قلنا: لم لا يجوز أن يكون ذلك، كما في قوله تعالى:فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [آل عِمْرَان: 21، والتوبة: 34، والإنشقاق: 24] وقوله:ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } [الدخان: 49]. وأيضاً لم لا يجوز أن يكون المراد منه أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله، فكان المراد من الوعد تلك المنافع.

وذكر الواحديّ في (البسيط) طريقة أخرى فقال: لم لا يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء، دون وعيد الأعداء، لأن خلف الوعيد كرم عند العرب. قال: والدليل عليه أنهم يمدحون بذلك، قال الشاعر:
إذا وعد السرّاءَ أَنجز وعده   وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه
وروى المناظرة التي دارت بين أبي عمرو بن العلاء، وبين عمرو بن عبيد. قال أبو عَمْرو بن العلاء لعمرو بن عبيد: ما تقول في أصحاب الكبائر؟ قال: أقول إن الله وعد وعداً وأوعد إيعاداً، فهو منجز إيعاده كما هو منجز وعده، فقال أبو عمرو بن العلاء: إنك رجل أعجم، لا أقول أعجم اللسان، ولكن أعجم القلب. إن العرب تعدّ الرجوع عن الوعد لؤماً. وعن الإيعاد كرماً، وأنشد:
وإني وإن أوعدته أو وعدته   لكذب إيعادي ومنجز موعدي

السابقالتالي
2