الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَمَنْ تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ }

{ فَمَنْ تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } اعلم أن المقصود من هذه الآيات تعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. قطعاً لعذرهم وإظهاراً لعنادهم. ومن جملتها ما ذكره الله تعالى في هذه الآية. وهو أنه تعالى أخذ الميثاق من الأنبياء الذين آتاهم الكتاب والحكمة بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم، وإن كان ناسخاً لبعض أحكامهم بما دلت الحكمة على اقتضاء الزمان ذلك، آمنوا به ونصروه أيضاً، مبالغة في تشهير أمره. ولا يمنعهم ما هم فيه من العلم والنبوة واتباع شرعه ونصره. وأخبر أنهم قبلوا ذلك، وحكم بأن من رجع عن ذلك كان من الفاسقين. وقد قرئ في السبع بفتح اللام من: " لِمَا ءَاتَيْتُكُمْ ". وكسرها، فعلى الأول هي موطئة للقسم، لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف، و { مَا } حينئذ تحتمل الشرطية، و { لَتُؤْمِنُنَّ } سادّ مسد جواب القسم والشرط. وتحتمل الموصولة بمعنى " لَلَّذِي أَتَيْتُكُمُوهُ لَتُؤْمِنُنَّ بهِ " وعلى الثاني، أعني كسر اللام فـ { مَا } إما مصدرية أي: لأجل إيتائي إياكم الكتاب ثم لمجيء رسول مصدق لكم غير مخالف أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه. وإما موصولة والمعنى أخذه للذي آتيتمكموه، وجاءكم رسول مصدق له، وقوله تعالى: { فَٱشْهَدُواْ }. أي: يا أنبياء، بعضكم على بعض، بالإقرار. وفي قوله تعالى:وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ ٱلشَّاهِدِينَ } [آل عمران: 81] توكيد عليهم. ومن أمعن في نهج الآية علم أن هذا الميثاق قد بولغ في شأنه غاية المبالغة، وإذا كان هذا الإيجاب مع الأنبياء، فمع أممهم أولى. وقد روي عن عليّ بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بعث الله محمداً، وهو حيّ، ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه. قال ابن كثير: وهذا لا يضادّ ما قاله طاوس والحسن وقتادة: أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً، بل يستلزمه ويقتضيه، ولهذا روى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه مثل قول عليّ وابن عباس - انتهى.

ومن أثر عليّ عليه السلام هذا، فهم بعض العلماء اختصاص هذا الميثاق بنينا صلى الله عليه وسلم كما نقل القاضي عياض في الشفاء عن أبي الحسن القابسيّ قال: استخص الله تعالى محمداً بفضلٍ لم يؤته غيره أبانه به. وهو ما ذكره في هذه الآية - انتهى - وقد علمت المراد.

بقي أن الإمام أبا مسلم الأصفهانيّ ذهب إلى أن في قوله تعالى:مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ } [آل عمران: 81] حذف مضاف، أي: أممهم، وعبارته: ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مبعثه، وكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكونون عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلم من زمرة الأموات، والميت لا يكون مكلفاً، فلما كان الذين أخذ عليهم الميثاق يجب عليهم الإيمان بمحمد عليه السلام عند مبعثه، ولا يمكن إيجاب الإيمان على الأنبياء، عند مبعث محمد عليه السلام، علمنا أن الذين أخذ الميثاق عليهم ليسوا هم النبيين، بل هم أمم النبيين.

السابقالتالي
2