الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـٰئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ } أي: يستبدلون { بِعَهْدِ ٱللَّهِ } أي: بما أخذهم عليه في كتابه. أو بما عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول المصدق لما معهم { وَأَيْمَانِهِمْ } أي: التي عقدوها بالتزام متابعة الحق على ألسنة الرسل { ثَمَناً قَلِيلاً } من الدنيا الزائلة الحقيرة التي لا نسبة لجميعها إلى أدنى ما فوتوه { أُوْلَـٰئِكَ لاَ خَلاَقَ } أي: لا نصيب ثواب { لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } وذلك لحجبهم عن مقامات قربه كما قال تعالى:كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [المطففين: 15]. { وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } أي: ولا يثني عليهم كما يثني على أوليائه، أو لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: بالنار.

واعلم أن في هذه الآية مسائل

الأولى: قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية أن من نقض عهداً لله لغرض دنيويّ، أو حلف كاذباً، فإنه قد ارتكب كبيرة.

الثانية: في الجمع بين قوله تعالى هنا: { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ }. وقوله:فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [الحجر: 92]. قال القفال: المقصود من هذه الآية بيان شدة سخط الله عليهم، لأن من منع غيرَه كلامَه فإنما ذلك بسخطِ عليه، وإذا سخط إنسان على آخر قال له: لا أكلمك. وقد يأمر بحجبه عنه، ويقول: لا أري وجه فلان، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل، فثبت أن الآية كناية عن شدة الغضب، نعوذ بالله منه، ومنهم من قال: لا يبعد أن يكون إسماع الله جل جلاله أولياءه كلامه بغير سفير تشريفا عاليا يختص به أولياءه. ولا يكلم هؤلاء الكفرةَ والفساق، وتكون المحاسبة معهم بكلام الملائكة. ومنهم من قال: معنى الآية لا يكلمهم بكلام يسرهم وينفعهم، والكل حسن.

الثالثة: روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقى الله وهو عليه غضبان " قال عبد الله: ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله عز وجل: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً... } إلى آخر الآية. وفي رواية قال: " من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان " ، فأنزل الله تصديق ذلك { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً... } الآية. " فدخل الأشعث بن قيس الكنديّ فقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن؟ قلنا: كذا وكذا، فقال: صدق؛ فيّ نزلت، كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شاهداك أو يمينه ". قلت: إنه إذاً يحلف ولا يبالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان "

السابقالتالي
2