الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ }

{ فَمَنْ حَآجَّكَ } أي: جادلك من النصارى بإيراد حجة { فِيهِ } أي: في شأن عيسى زعماً منهم أنه ليس على الشأن المتلوّ { مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ } أي: الذي أنزلناه إليك، وقصصناه عليك في أمره. وللفاضل المهايميّ في هذه الآية أسلوب لطيف في التأويل حيث قالٱلْحَقُّ } [آل عمران: 60] أي: الثابت الذي لا يقبل التأويل جاء:مِن رَّبِّكَ } [آل عمران: 60] الذي رباك بالإطلاع على الحقائقفَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ } [آل عمران: 60] بما ورد في الإنجيل من إطلاق لفظ الأب على الله فإنه إطلاق مجازيّ لأنه لما حدث منه كان كأبيه. وإذا ظهر لك الحق من ربك بالبيان التام { فَمَنْ حَآجَّكَ } أي: جادلك { فِيهِ } لإثبات أنتبه بظواهر الإنجيل { مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ } القطعيّ الموجب لتأويله. { فَقُلْ } لم يبق بيننا وبينكم مناظرة، ولكن نرفع عنادكم بطريق المباهلة { تَعَالَوْاْ } أي: أقبلوا أيها المجادلون إلى أمر يُعرف فيه علوّ الحق وسفول الباطل: { نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ } أي: يدع كل منا ومنكم نفسه، وأعزة أهله، وألصقهم بقلبه، ممن يخاطر الرجل بنفسه لهم ويحارب دونهم، ويحملهم على المباهلة { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } أي: نتضرع إلى الله تعالى ونجتهد في دعاء اللعنة { فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ } أي: إبعاده وطرده { عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ } منا ومنكم ليهلكهم الله وينجي الصادقين، فلا يبقى العناد الباقي عليكم بعد اتفاق الدلائل العقلية والنقلية.

تنبيهات

الأول: قال القاشانيّ: إن لمباهلة الأنبياء تأثيراً عظيماً سببه اتصال نفوسهم بروح القدس وتأييد الله إياهم به، وهو المؤثر بإذن الله في العالم العنصريّ، فيكون انفعال العالم العنصريّ منه كانفعال بدننا من روحنا بالهيئات الواردة عليه، كالغضب والحزن والفكر في أحوال المعشوق، وغير ذلك من تحرك الأعضاء عند حدوث الإرادات والعزائم. وانفعال النفوس البشرية منه، كانفعال حواسنا وسائر قوانا من هيئات أرواحنا، فإذا اتصل نفس قدسي به كان تأثيرها في العالم عند التوجه الاتصاليّ بتأثير ما يتصل به، فتنفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الإنسانية منه بما أراد. ألم تر كيف انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه السلام بالخوف، وأحجمت عن المباهلة، وطلبت الموادعة بقبول الجزية؟

الثاني: قال ابن كثير: وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نصارى نجران لما قدموا المدينة، فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوّة والإلهية، فأنزل الله صدر هذه السورة ردّاً عليهم كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق وغيره، وكانوا ستين راكباً، منهم ثلاثة نفر، إليهم يؤول أمرهم: العاقب أمير القوم واسمه عبد المسيح، والسيد ثِمَالُهُمْ وصاحب رحلهم واسمه الأيهم، وأبو حارث بن علقمة أسقفهم وحبرهم. وفي القصة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أتاه الخبر من الله عز وجل، والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه، دعاهم إلى المباهلة فقالوا: يا أبا القاسم! دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، فانصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى! لقد عرفتم إن محمداً لنبيٌّ مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبياً قط، فبقي كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وإنه لَلاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم.

السابقالتالي
2 3