الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱصْبِرُواْ } أي: على مشاق الطاعات وما يمسكم من المكاره والشدائد { وَصَابِرُواْ } أي: غالبوا أعداء الله في الصبر على شدائد الجهاد. لا تكونوا أقل صبراً منهم وثباتاً. والمصابرة باب من الصبر. ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه، تخصيصاً، لشدته وصعوبته - كذا في الكشاف.

{ وَرَابِطُواْ } أي: أقيموا على مرابطة الغزو في نحر العدوّ بالترصد والاستعداد لحربهم، وارتباط الخيل. قال الله تعالى:وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [الأنفال: 60]، والرباط في الأصل أن يربط كل من الفريقين خيولهم في ثغرة وكل معدّ لصاحبه، ثم صار لزوم الثغر رباطاً، وربما سميت أنفسها رباطاً، وقد يتجوّز بالرباط عن الملازمة والمواظبة على الأمر، فتسمى رباطاً ومرابطة.

قال الفارسيّ: هو ثان من لزوم الثغر، ولزوم الثغر ثان من رباط الخيل. وقد وردت الأخبار بالترغيب في الرباط، وكثرة أجره. فمنها ما رواه البخاريّ في صحيحه عن سهل بن سعد الساعديّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " رباط يوم في سبيل الله، خير من الدنيا وما عليها ".

وروى مسلم عن سلمان الفارسيّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رباط يوم وليلة، خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمِنَ الفُتَّان ".

وروى الإمام أحمد عن فضالة بن عبيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله، فإنه ينمو عمله إلى يوم القيامة، ويأمن فتنة القبر " ، وهكذا روى أبو داود والترمذيّ وقال: حسن صحيح. وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضاً. وبقيت أحاديث أخر ساقها الحافظ ابن كثير في تفسيره.

هذا ومن الوجوه في قوله تعالى: { وَرَابِطُواْ }: أن يكون معناه انتظار الصلاة بعد الصلاة. فقد روى مسلم والنسائيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أخبركم بما يمحوا الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط " فشبه صلى الله عليه وسلم ما ذكر من الأفعال الصالحة بالرباط.

وروى الحاكم في (مستدركه) والحافظ ابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: أقبل عليّ أبو هريرة يوماً فقال: أتدري، يا ابن أخي! فيم نزلت هذه الآية { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ } قلت: لا! قال: أما إنه لم يكن في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلون الصلاة في مواقيتها، ثم يذكرون الله فيها، فعليهم أنزلت { ٱصْبِرُواْ } أي: على الصلوات الخمس: { وَصَابِرُواْ } أنفسكم وهواكم ورابطوا في مساجدكم.

السابقالتالي
2 3