الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَـٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ ثَوَاباً مِّن عِندِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ }

{ فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي } أي: بأني { لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ } بيان لـ (عامل) وتأكيد لعمومه { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } أي: الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر , كلكم بنو آدم، وهذه جملة معترضة مبينة سبب شركة النساء مع الرجال، فيما وعد الله عباده العاملين. وروى الحافظ سعيد بن منصور في سننه عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله تعالى: { فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ... } الآية - وقالت الأنصار: هي أول ظعينة قدمت علينا - ورواه الترمذيّ، والحاكم في (مستدركه) وقال: صحيح على شرط البخاريّ، ولم يخرجاه. وروى ابن مردويه عن مجاهد عن أم سلمة قالت: آخر آية نزلت: { فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ... } إلى آخرها. وعن جعفر الصادق رضي الله عنه: من حزَبَهُ أمر فقال: خمس مرات " رَبَّنَا " أنجاه الله مما يخاف، وأعطاه ما أراد. وقرأ الآيات.

{ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ } مبتدأ، وهو تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له والتفخيم, كأنه قال: فالذين عملوا هذه الأعمال السنية وهي المهاجرة عن أوطانهم فارّين إلى الله بدينهم من دار الفتنة { وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ } أي: التي ولدوا فيها ونشؤوا { وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي } أي: من أجله وبسببه, يريد سبيل الإيمان بالله وحده, وهو متناول لكل أذى نالهم من المشركين { وَقَـٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ } أي: غزوا المشركين واستُشهدوا { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } جملة قسمية, خبر المبتدأ الذي هو الموصول, وهذا تصريح بوعد ما سأله الداعون بخصوصه, بعد ما وعد ذلك عموماً { وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } أي: من تحت قصورها الأنهار, من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر { ثَوَاباً مِّن عِندِ ٱللَّهِ } في موضع المصدر المؤكد لما قبله, فإن تكفير السيئات وإدخال الجنة, في معنى الإثابة، وأضافه إليه تعالى ليدل على أنه عظيم؛ لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلاً كثيراً. كما قيل:
إن يعاقِبْ يكن غراماً وإن يعـ   طِ جزيلاً فإنه لا يبالي
{ وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ } أي: حسن الجزاء لمن عمل صالحاً.

ثم بين تعالى قبح ما أوتي الكفرة من حظوظ الدنيا, وكشف عن حقارة شأنها وسوء مغبتها, إثْرَ بيان حسن ما أوتي المؤمنون من الثواب, بقوله:

{ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ... }.