الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ }

{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } أي: للذين تولوا عنك حين عادوا إليك بعد الانهزام، وللمؤمنين عموماً كما قال تعالى:بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 128]. وما مزيدة للتوكيد أو نكرة. و { رَحْمَةٍ } بدل منها مبيّن لإبهامها. والتنوين للتفخيم، أي: ما لنت هذا اللين الخارق للعادة، مع ما سبّب فعلهم من الغضب الموجب للعنف والسطوة، لا سيما مع اعتراض من اعترض على ما أشار به، إلا بسبب رحمة عظيمة { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً } أي: سيئ الخلق خشن الكلام { غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ } أي: قاسيه وشديده. تعاملهم بالعنف والجفا { لاَنْفَضُّواْ } أي: تفرقوا { مِنْ حَوْلِكَ } فلم يسكنوا إليك فلا تتم دعوتك. ولكن الله جعلك سهلاً سمحاً طلقاً ليناً لطيفاً باراً رؤوفا رحيما { فَٱعْفُ عَنْهُمْ } أي: فيما فرطوا في حقك كما عفا الله عنهم { وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ } إتماماً للشفقة عليهم { وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ } أي: أمر الحرب وغيره تودداً إليهم وتطييباً لنفوسهم، واستظهاراً بآرائهم، وتمهيداً لسنة المشاورة في الأمة.

وقد ساق العلامة الرازيّ وجوهاً أخرى في فائدة أمره تعالى له عليه الصلاة والسلام بمشاورتهم. منها: أنه صلى الله عليه وسلم، وإن كان أكمل الناس عقلاً، إلا أن علوم الخلق متناهية، فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح مالا يخطر بباله. لا سيما فيما يفعل من أمور الدنيا. فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " أنتم أعرف بأمور دنياكم " ومنها: أن الأمر بمشاورتهم لا لأجل أنه صلى الله عليه وسلم محتاج إليهم، ولكن لأجل أنه إذا شاورهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها، وتطابقُ الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله. وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات، وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد. انتهى.

وقد ثبت مشاورته صلى الله عليه وسلم لأصحابه في عدة أمور منها أنه شاورهم في يوم بدر في الذهاب إلى العير. فقالوا: يا رسول الله لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى:فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [المائدة: 24]. ولكن نقول: اذهب فنحن معك وبين يديك، وعن يمينك وشمالك مقاتلون. وشاورهم أيضاً أين يكون المنزل حتى أشار المنذر ابن عمرو بالتقدم أمام القوم، وشاورهم في أُحُد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو. فأشار جمهورهم بالخروج إليهم فخرج إليهم. وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ. فأبى ذلك عليه السعدان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فترك ذلك.

السابقالتالي
2