الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ ٱلْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَىٰ طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ ظَنَّ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِيۤ أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَٰهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }

{ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ ٱلْغَمِّ أَمَنَةً } أي: أمناً. والأمنة بتحريك الميم مصدر, يقال: أمن أمناً وأماناًَ وأمَناً وأمنَة محركتين وفي حديث نزول عيسى عليه السلام, وتقع الأمنَة في الأرض, أي: الأمن. ومثله من المصادر العَظَمة والغَلَبة, وهو منصوب على المفعولية. وقوله تعالى: { نُّعَاساً } بدل من { أَمَنَةً } وقيل: هو المفعول, و { أَمَنَةً } حال أو مفعول له { يَغْشَىٰ طَآئِفَةً مِّنْكُمْ } وهم المخلصون, أهل اليقين والثبات والتوكل الصادق, الجازمون بأن الله عز وجل سينصر رسوله وينجز له مأموله. والنعاس في حال الحرب دليل على الأمان, كما قال في سورة الأنفال:إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ... } [الأنفال: 11] الآية وروى البخاريّ في التفسير عن أنس عن أبي طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافّنا يوم أحد، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه. ورواه الترمذيّ والنسائيّ والحاكم. ولفظ الترمذيّ: قال أبو طلحة: رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر، وما منهم ويومئذ أحد إلا يميد تحت حجفته من النعاس. فذلك قوله تعالى: { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ ٱلْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً }. وقد ساق الرازيّ لذلك النعاس فوائد: منها أن الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم، فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدلّ الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم. وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم، ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله تعالى - انتهى.

ثم أخبر تعالى أن من لم يصبه النعاس فهو ممن أهمته نفسه، لا دينه ولا نبيه ولا أصحابه، بقوله: { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } أي: ما بهم إلا هم أنفسهم وقد قصد خلاصها، فلم يَغْشَهُم النعاس، من القلق والجزع والخوف { يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ } أي: غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به سبحانه { ظَنَّ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ } كما قال تعالى في الآية الأخرى:بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَداً... } [الفتح: 12] الآية. وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة، وأن الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك، إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة.

قال الإمام ابن القيّم في زاد المعاد: وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وأنه يسلمه للقتل. وفسر بأن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره، ولا حكمة له فيه. ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله، ويظهره على الدين كله. وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون به سبحانه وتعالى في سورة الفتح، حيث يقول:وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ ٱلظَّآنِّينَ بِٱللَّهِ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً }

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7