الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيۤ أُخْرَٰكُمْ فَأَثَـٰبَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَـٰبَكُمْ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }

{ إِذْ تُصْعِدُونَ } متعلق بـ { صَرَفَكُمْ } أو بقوله { لِيَبْتَلِيَكُمْ } , أو بمقدر. والإصعاد الإبعاد في الأرض. أي: تبعدون في الفرار, وقرئ: تَصْعَدُونَ، من الثلاثيّ, أي: في الجبل { وَلاَ تَلْوُونَ } أي: لا تعطفون بالوقوف { عَلَىٰ أحَدٍ } أي: من قريب ولا بعيد من الدهش والروعة { وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيۤ أُخْرَٰكُمْ } أي: ساقتكم وجماعتكم الأخرى, إلى ترك الفرار من الأعداء وإلى العود والكرة عليهم، وأنتم مدبرون وهو ثابت في مكانه في نحر العدو في نفر يسير وثوقاً بوعد الله ومراقبة له.

قال السدّيّ: لما اشتد المشركون على المسلمين بأحُد, فهزموهم, دخل بعضهم المدينة, وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها. فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس: " إليَّ عَبَّاد الله! إليَّ عَبَّاد الله! " فذكر الله صعودهم إلى الجبل - ثم ذكر دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم إياهم فقال: { إِذْ تُصْعِدُونَ... } الخ - قال ابن كثير: وكذا قال ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد.

وفي حديث البراء رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد أنهم لما انهزموا لم يبق مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً. وروى مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش: { فَأَثَـٰبَكُمْ } أي: جازاكم بهذا الهرب والفرار { غَمّاً بِغَمٍّ } أي: غماً متصلاً بغم, يعني: غم الهزيمة والكسرة, وغم صرخة الشيطان فيهم بأن محمداً قتِل. وقيل: الباء بمعنى مع , وقيل: بمعنى على , وهما قريبان من الأول. وقيل الباء للمقابلة والعوض , أي: أذاقكم غمّاً بمقابلة غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عصيانكم أمره. قاله الزجاج. وقال الحسن: يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين, وقيل: المعنى غماً بعد غم أي: غماً مضاعفاً. ثم أشار إلى سر ذلك بقوله: { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ } أي: لتتمرنوا بالصبر على الشدائد, والثبات فيها, وتتعودوا رؤية الغلبة والظفر والغنيمة, وجميع الأشياء من الله لا من أنفسكم, فلا تحزنوا على ما فاتكم من الحظوظ والمنافع. وقوله: { وَلاَ مَآ أَصَـٰبَكُمْ } من الغموم والمضار.

قال العلامة ابن القيّم في زاد المعاد: وقيل جازاكم غماً بما غممتم به رسوله بفراركم عنه, وأسلمتموه إلى عدوه. فالغم الذي حصل لكم جزاءً على الغم الذي أوقعتموه بنبيه.

والقول الأول أظهر لوجوه:

أحدها: أن قوله: { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَـٰبَكُمْ } تنبيه على حكمة هذا الغم بعد الغم, وهو أن ينسيهم الحزن على ما فاتهم من الظفر, وعلى ما أصابهم من الهزيمة والجراح, فنسوا بذلك السلب, وهذا إنما يحصل بالغم الذي يعقبه غم آخر.

السابقالتالي
2