الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ }

{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } في قوله:وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ } [أل عمران: 120] { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } أي: تقتلونهم قتلاً كثيراً. من حسه إذا أبطل حسه { بِإِذْنِهِ } أي: بتيسيره وتوفيقه { حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ } أي: ضعفتم وتراخيتم بالميل إلى الغنيمة { وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ } أي: في الإقامة بالمركز، فقال أصحاب عبد الله: الغنيمة. أي: قوم! الغنيمة. ظهر أصحابكم فما تنظرون؟ قال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين - رواه الإمام أحمد.

والأمر إما بمعنى الشأن والقصة، وإما الذي يضادّه النهي أي: فيهم أمرتم به من عدم البراح { وَعَصَيْتُمْ } أي: أمر الرسول ألا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم، وإن رأيتموهم ظهروا علينا، فلا تعينونا - رواه البخاريّ { مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } أي: من الظفر والغنيمة، وانهزام العدوّ. روى البخاريّ عن البراء قال: لقينا المشركين يومئذ، وأجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم جيشاً من الرماة، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير وقال: لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم - بلفظ ما تقدم - ثم قال البراء: فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل، رفعن عن سوقهن، قد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة.. الحديث { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } أي: الغنيمة فترك المركز { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ } فثبت فيه وهم الذين نالوا شرف الشهادة، ومنهم أنس بن النضر الأسد المقدام، القائل وقتئذ: اللهم! إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين - وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه، فلقي سعد بن معاذ، فقال: أين يا سعد؟ إني أجد ريح الجنة دون أُحُد! فمضى فقُتِل، فما عرف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانه وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم - هذا لفظ البخاريّ - وأخرجه مسلم بنحوه، فرضى الله عنه وأرضاه وقدس روحه الزكية.

{ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } أي: كفكم عنهم حتى حالت الحال، ودالت الدولة. وفيه من اللطف بالمسلمين ما لا يخفى { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أي: ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا إلى الله، وترجعوا إليه، وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره، وملتم إلى الغنيمة. ثم أعملهم أنه تعالى قد عفا عنهم بقوله: { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } أي: تفضلاً عليكم لإيمانكم { وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي: في الأحوال كلها، إما بالنصرة وإما بالابتلاء، فإن الابتلاء فضل ولطف خفيّ، ليتمرنوا بالصبر على الشدائد، والثبات في المواطن، ويتمكنوا في اليقين، ويجعلوه ملكة لهم، ويتحققوا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ولا يميلوا إلى الدنيا وزخرفها، ولا يذهلوا عن الحق، وليكون عقوبة عاجلة للبعض، فيتمحصوا عن ذنوبهم، وينالوا درجة الشهادة، فيلقوا الله ظاهرين - أفاده القاشانيّ.

السابقالتالي
2