الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } * { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً }

{ وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } أي: لا يحضرون الباطل. يقال: (شهد كذا) أي: حضره. فـ(الزور) مفعول به بتقدير مضاف أي: محاله. و(يشهدون) من الشهادة. فالزور منصوب على المصدر أو بنزع الخافض أي: شهادة الزور أو بالزور. وقد أشار الزمخشري للوجهين بقوله: يحتمل أنهم ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطائين، فلا يحضرونها ولا يقربونها، تنزهاً عن مخالطة الشر وأهله وصيانة لدينهم عما يثلمه. لأن مشاهدة الباطل شركة فيه. ولذلك قيل في النظارة إلى كل ما لم تسوغه الشريعة (هم شركاء فاعلية في الإثم) لأن حضورهم ونظرهم دليل الرضا به، وسبب وجوده، والزيادة فيه لأن الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة، ورغبتهم في النظر إليه. ويحتمل أنهم لا يشهدون شهادة الزور. انتهى وهي الكذب متعمداً على غيره.

قال المبرد في (الكامل): ويروى عن ابن عباس في هذه الآية { وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } قال: أعياد المشركين. وقال ابن مسعود: الزور الغناء. فقيل لابن عباس: أو ما هذا في الشهادة بالزور؟ فقال: لا، إنما آية شهادة الزوروَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [الإسراء: 36] { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } أي: اتفق مرورهم بأهل اللغو، وهو كل ما ينبغي ويطرح، مرّوا معرضين عنهم، مكرمين أنفسهم عن الخوض معهم كقوله تعالى:وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي ٱلْجَاهِلِينَ } [القصص: 55] ويدخل في ذلك الإغضاء عن الفواحش، والصفح عن الذنوب، والكناية عما يستهجن التصريح به وذلك لأن (كراماً) جمع كريم بمعنى مكرم لنفسه وغيره بالصفح ونحوه { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ } أي: وعظوا بها وخوفوا { رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } أي: بل أكبوا عليها سامعين بآذان واعية، مجتلين لها بعيون راعية. وإنما عبر بنفي الضد، تعريضاً لما يفعله الكفرة والمنافقون من شدة الإعراض والإباء والنفرة، المستعار لها (الخرور) على تلك الحالة استعارة بديعة. لما فيهم من إسقاطهم من الإنسانية إلى البهيمية، بل إلى أدنى منها، لأنها تسمع وتبصر، وقد نفينا عنهم.

وفي التنزيل الكريم من توصيف المؤمنين بوجل قلوبهم لذكره تعالى، وزيادة إيمانهم إذا تلى عليهم الذكر الحكيم، آيات عديدة. ولذا قال قتادة فيهم: هم قوم عقلوا عن الله، وانتفعوا بما سمعوا من كتابه ويرحم الله الحسن البصري، فقد قال: كم من رجل يقرؤها، ويخر عليها أصم أعمى.