الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَهُوَ ٱلَّذِي مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً }

{ وَهُوَ ٱلَّذِي مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ } أرسلهما متجاورين متلاصقين، بحيث لا يتمازجان { هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ } أي: شديد العذوبة قامع للظمأ { وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي: بليغ الملوحة { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } أي: حاجزاً لا يختلط أحدهما بالآخر { وَحِجْراً مَّحْجُوراً } أي: منعاً من وصول أثر أحدهما إلى الآخر، وامتزاجه به، حتى بعد دخول أحدهما في الآخر مسافة.

لطيفة

تلطف هنا المهايمي في تأويل الآية، بمعنى يصلها بالآية قبلها، في أسلوب غريب؛ قال رحمه الله في قوله تعالى:وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً } [الفرقان: 52]: يؤثر في بواطنهم فيكون { كَبيراً } يفوق ما يؤثر في الظواهر (و) إن زعموا أنه كيف يجاهد بالدلائل من يورد شبهات تجاورها؟ قيل: غاية أمرها أن يكونا كالبحرين المختلفين المتجاورين. وقد رفع الله الالتباس بينهما بعد ما جاور بينهما وهما محسوسان، فكيف لا يرفع الالتباس بين البحرين المعقولين إذ { هُوَ ٱلَّذِي مَرَجَ } أي: جاور { ٱلْبَحْرَيْنِ } اللذين بينهما غاية الخلاف إذ { هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ } أي: قاطع للعطش وهو مثل بحر الدلائل المفيدة للذوق، القاطعة عطش الطلب { وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي: مبالغ في الملوحة. وهو مثل بحر الشبهات الموجبة للنفرة جدّاً لأهل الذوق (و) أما لأهل النظر فقد { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } أي: مانعاً من الخلط. وهو النظر في مواد المقدمات وصورها ليعلم بذلك صحة الدلائل (و) أما فساد الشبهات فيعلم بالاعتراضات التي لا جواب عنها، كما أنه جعل بينهما { حِجْراً } أي: منعاً من وصول أثر أحدهما إلى الآخر { مَّحْجُوراً } أي: ممنوعاً أن يمنع. وإن زعموا أن كل فرقة ترى ممسكاته تفيده الذوق وتقطع عنه الطلب ويتنفر عن متمسكات صاحبه أشد من التنفر عن الملح الأجاج، قيل: ليس هذا بالنظر إلى نفس الدلائل، بل بواسطة التعصب من جهة الآباء والمشايخ والأصحاب.

وقد أوجد الله لإزالة العذر عنه مثالاً، في قوله:

{ وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ... }.