الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ }

{ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ } أي: عميق كثير الماء { يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ } أي: متراكم بعضه على بعض { مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } أي: متكاثفة متراكمة. وهذا بيان لكمال شدة الظلمات { إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ } أي: وجعلها بمرأى منه، قريبة من عينه لينظر إليها { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } أي: ومن لم يشأ الله أن يهديه لنوره الذي هو القرآن، فما له هدايةٌ ما. وهذا في مقابلة قوله تعالى في مثل المؤمنينيَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } [النور: 35] والجملة تقرير للتمثيل قبلُ، وتحقيق أن ذلك لعدم هدايته تعالى إياهم، إذ لم يجاهدوا لنيل ذلك، قال تعالى:وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت: 69].

لطيفة

قال ابن كثير: هذان المثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار. كما ضرب للمنافقين في أول البقرة مثلين: ناريّاً ومائياً. وكما ضرب لما يقرّ في القلوب من الهدي والعلم، في سورة الرعد، مثلين مائيّاً وناريّاً.

ثم قال: أما الأول فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم أصحاب الجهل المركب الذين يحسبون أنهم على شيء. فمثلهم كالسراب. والثاني لأصحاب الجهل البسيط وهم المقلدون لأئمة الكفر الصم البكم، الذين لا يعقلون. فلا يعرف أحدهم حال من يقوده ولا يدري أين يذهب. بل كما يقال في المثل للجاهل (أين تذهب؟ قال: معهم. قيل: فإلى أين يذهبون؟ قال: لا أدري) انتهى.

وما ذكره مما يحتمله اللفظ الكريم، وليس بمتعين. ومستنده في ذلك ما ذكره شيخه الإمام ابن القيم، عليهما الرحمة والرضوان، في (الجيوش الإسلامية) ولا بأس بإيرادها لما اشتملت عليه من بدائع الفوائد. قال: انظر كيف انتظمت هذه الآيات طرائق بني آدم أتم انتظام، واشتملت عليه أكمل اشتمال. فإن الناس قسمان: أهل الهدى والبصائر الذين عرفوا أن الحق فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه وتعالى، وأن كل ما عارضه فشبهات يشتبه على من قل نصيبه من العقل والسمع أمرها، فيظنها شيئاً له حاصل فينتفع به. وهي كسراب بقيعة الخ، وهؤلاء هم أهل الهدى ودين الحق، أصحاب العلم النافع والعمل الصالح، الذين صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أخباره، ولم يعارضوها بالشبهات. وأطاعوه في أوامره ولم يضيعوها بالشهوات. فلا هم في عملهم، من أهل الخوض الخراصينٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } [الذاريات: 11] ولا هم في عملهم من المستمتعين بخلافهم، الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون. أضاء لهم نور الوحي المبين، فرأوا في نوره أهل الظلمات في آرائهم يعمهون. وفي ضلالهم يتهوكون. وفي ريبهم يترددون. مغترين بظاهر السراب، ممحلين مجدبين ما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم من الحكمة وفصل الخطاب

السابقالتالي
2 3 4 5