الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ }

{ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } أي: مقتضى إيمانكم الغض عما حرم الله تعالى النظر إليه { وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } أي: عن الإفضاء بها إلى محرم، أو عن الإبداء والكشف { ذٰلِكَ } أي: الغض والحفظ { أَزْكَىٰ لَهُمْ } أي: أطهر للنفس وأتقى للدين { إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } أي: بأفعالهم وأحوالهم. وكيف يجيلون أبصارهم، وكيف يصنعون بسائر حواسهم وجوارحهم. فعليهم، إذ عرفوا ذلك، أن يكونوا منه على تقوى وحذر، في كل حركة وسكون. أفاده الزمخشري.

تنبيهات

الأول: قال السيوطي في (الإكليل): في الآية تحريم النظر إلى النساء وعورات الرجال وتحريم كشفها. أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: كل شيء في القرآن من (حفظ الفرج) فهو من الزنا، إلا هذه الآية والتي بعدها، فهو أن لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة. انتهى.

وليس بمتعين. وعليه فيكون النهي عن الزنا يعلم منه بطريق الأولى. أو الحفظ عن الإبداء يستلزم الحفظ عن الإفضاء.

الثاني: إن قيل: لِمَ أتى بـ (من) التبعيضية في غض الأبصار وقيدها به دون حفظ الفروج؟ مع أنه غير مطلق ومقيد في قوله تعالى:وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [المؤنمون: 5-6] لأن المستثنى في الحفظ هو الأزواج والسراري، وهو قليل بالنسبة لما عداه. فجعل كالعدم ولم يقيد به. مع أنه معلوم من الآية الأخرى. بخلاف ما يطلق فيه البصر. فإنه يباح في أكثر الأشياء، إلا نظر ما حرم عن قصد. فقيّد (الغض به) ومدخول (من) التبعيضية ينبغي أن يكون أقل من الباقي. وقيل: إن الغض والحفظ عن الأجانب. وبعض الغض ممنوع بالنسبة إليهم، وبعضه جائز. بخلاف الحفظ فلا وجه لدخول (من) فيه. كذا في (العناية).

الثالث: سر تقديم عض الأبصار على حفظ الفروج، هو أن النظر بريد الزنا ورائد الفجور، كما قال الحماسي:
وكنتَ إذا أرسلتَ طَرْفَكَ رَائِداً   لقلبك يوماًَ، أتْعَبَتْكَ الْمَنَاظِرُ
ولأن البلوى فيه أشد وأكثر. ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه. فبودر إلى منعه. ولأنه يتقدم الفجور في الواقع، فجعل النظم على وفقه. الرابع: غض البصر من أجلّ الأدوية لعلاج أمراض القلوب. وفيه حسم لمادتها قبل حصولها. فإن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس. ومن أطلق لحظاته، دامت حسراته.
كل الحوادثِ مبداها من النظرِ   ومعظمُ النَّارِ من مستصغَرِ الشّرَرِ
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في (الجواب الشافي): في غض البصر عدة منافع:

أحدها: امتثال أمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده. وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك و تعالى. وما سعد من سعد في الدنيا والآخرة، إلا بامتثال أوامر ربه.

السابقالتالي
2 3