الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }

{ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا } خبر محذوف. أي: هذه السورة. والتنكير للتفخيم { وَفَرَضْنَاهَا } أي: أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجاباً قطعيّاً { وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي: تتذكرونها فتعملون بموجبها.

قال الإمام ابن تيمية رحمه الله، في تفسير هذه الآيات: هذه السورة فرضها تعالى بالبينات والتقدير والحدود، التي من يتعد حلالها إلى الحرام فقد ظلم نفسه. ومن قرب من حرامها فقد اعتدى وتعدى الحدود. وبين فيها فرض العقوبة وآية الجلد وفريضة الشهادة على الزنا وفريضة شهادة المتلاعنيْن. كل منهما يشهد أربع شهادات بالله. ونهى فيها عن تعدي حدود الله في الفروج والأعراض والعورات وطاعة ذي السلطان. سواء كان في منزله أو ولايته. ولا يخرج ولا يدخل إلا بإذنه. إذ الحقوق نوعان: نوع لله فلا يتعدى حدوده، ونوع للعبادة فيه أمر فلا يفعل إلا بإذن المالك، فليس لأحد أن يفعل شيئاً في حق غيره إلا بإذن الله. وإن لم يإذن المالك، فإذن الله هو الأصل، وإذن المالك حيث أذن الله وجعل له الإذن فيه. ولهذا ضمنها الاستئذان في المساكن والمطاعم وفي الأمور الجامعة. كالصلاة والجهاد ونحوهما. ووسطها بذكر النور الذي هو مادة كل خير وصلاح كل شيء. وهو ينشأ عن امتثال أمر الله واجتناب نهيه، وعن الصبر على ذلك. فإنه ضياء. فإن حفظ الحدود بتقوى الله، يجعل لصاحبه نوراً. كما قال تعالى:ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ... } [الحديد: 28] الآية فضدّ النور الظلمة، ولهذا عقب ذكر النور وأعمال المؤمنين بأعمال الكفار. وأهل البدع والضلال. فقالوَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ } [النور: 39] الآية، إلى قوله:أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ... } [النور: 40] الآية وكذلك الظلم ظلمات يوم القيامة. وظلم العبد نفسه من الظلم. فإن للسيئة ظلمة في القلب، وسوادا في الوجه، ووهنا في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق. كما روي ذلك عن ابن عباس. يوضحه أن الله ضرب مثل إيمان المؤمنين بالنور، وأعمال الكفار بالظلمة. والإيمان اسم جامع لكل ما يحبه الله. والكفر اسم جامع لكل ما يبغضه، وإن كان لا يكفر العبد إذا كان معه أصل الإيمان وبعض فروع الكفر من المعاصي. كما لا يصير مؤمناً إذا كان معه بعض فروع الإيمان. ولغض البصر اختصاص بالنور. كما في حديث أبي هريرة الذي صححه الترمذي: " إن العبد إذا أذنب... " الحديث. وفيه: " فذلك الران الذي ذكر الله ". وفي الصحيح: " إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة " والغين حجاب رقيق أرق من الغيم، فأخبر أنه يستغفر ليزيل الغين، فلا يكون نكتة سوداء.

السابقالتالي
2