الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ }

{ أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ }.

هذا شروع في آياته الكونية، الدالة على وحدته في ألوهيته، التي عمي عنها المشركون، فلم يروها رؤية اعتبار وتدبر. ومعنى قوله: { كَانَتَا رَتْقاً } أي: لا تمطر ولا تنبت { فَفَتَقْنَاهُمَا } أي: بالمطر والنباتات. فالفتق والرتق استعارة. ونظير قوله تعالى:وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ * وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ } [الطارق: 11-12] والرجع لغة: هو الماء و(الصدع): هو النبات لأنه يصدع الأرض أي: يشقها. وقوله تعالى:فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ } [عبس: 24] أي: كيف انفردنا في إحداثه وتهيئته ليقيم بنيتهأَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً } [عبس: 25] أي: من المزن بعد أن لم يكنثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً } [عبس: 26] أي: ثم بعد أن كانت الأرض رتقاً متماسكة الأجزاء، شققناها شقّاً مرئياً مشهوداً، كما تراه في الأرض بعد الريّ. أو شقّاً بالنبات.

وقال أبو مسلم الأصفهانيّ: يجوز أن يراد بالفتق: الإيجاد والإظهار كقوله تعالى:فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [الأنعام: 14، وفاطر: 10] وكقوله:قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ٱلَّذِي فطَرَهُنَّ } [الإنبياء: 56] فأخبر عن الإيجاد بلفظ: (الفتق) وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ (الرتق).

قال الرازيّ: وتحقيقه أن العدم نفي محض. فليس فيه ذوات مميزة وأعيان متباينة. بل كأنه أمر واحد متصل متشابه. فإذا وجدت الحقائق، فعند الوجود والتكوين يتميز بعضها عن بعض، وينفصل بعضها عن بعض. فهذا الطريق حسن. جعل (الرتق) مجازاً عن العدم و(الفتق) عن الوجود. انتهى.

وقال بعض علماء الفلك: معنى قوله تعالى: { كَانَتَا رَتْقاً } أي: شيئاً واحداً. ومعنى { فَفَتَقْنَاهُمَا } فصلنا بعضهما عن بعض.

قال: فتدل الآية على أن الأرض خلقت كباقي الكواكب السيارة من كل وجه. أي: أنها إحدى هذه السيارات. وهي مثلها في المادة وكيفية الخلق وكونها تسير حول الشمس وتستمد النور والحرارة منها. وكونها مسكونة بحيوانات كالكواكب الأخرى. وكونها كروية الشكل. فالسيارات أو السماوات هي متماثلة من جميع الوجوه، كلها مخلوقة من مادة واحدة، وهي مادة الشمس. وعلى طريقة واحدة. اهـ كلامه.

وقد يرجح الوجه الأول في تفسير الآية لقوله تعالى بعده: { وَوَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } فإن ذلك مما يبين أن لسابقه تعلقاً بالماء. وعلى هذا فالرؤية في قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَ } بصرية. وعلى قول أبي مسلم وما بعده، علمية. على حد قوله تعالى لنبيّه صلوات الله عليه:أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ } [الفيل: 1] مع أنه لم يشاهد الحادثة، بل ولد بعدها. وإنما تيقنها بالأخبار الصادقة. وكذلك ما هنا من الفتق والرتق، بمعنييه الأخيرين، مما أخبر به الحق تعالى على لسان من قامت الحجة على صدقه وعصمته. فكان مما يسهل عليهم تصديقه فعلمُه.

ومعنى قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } صيّرنا كل شيء حيّ بسبب من الماء، لا يحيا دونه. فيدخل فيه النبات والشجر. لأنه من الماء صار نامياً. وصار فيه الرطوبة والخضرة والنور والثمر. وإسناده الحياة إلى ظهور النبات معروف في آيات شتى. كقوله تعالى:وَيُحْي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [الروم: 19] وخص بعضهم الشيء بالحيوان، لآية:وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ } [النور: 45] ولا ضرورة إليه. بل العموم أدل على القدرة، وأعظم في العبرة، وأبلغ في الخطاب، وألطف في المعنى.

وقوله تعالى: { أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } إنكار لعدم إيمانهم بالله تعالى وحده، مع ظهور ما يوجبه حتما من الآيات الظاهرة.