الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ ٱسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ }

{ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ ٱسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } تقريع لهم على مكافحة الحكمة بنقيضها. وتسجيل عليهم بالجهل الفاضح. فإن من حق ما يذكر أكمل تذكير، وينبه على الغفلة أتم تنبيه، أن تخشع له القلوب وتستحذي له الأنفس.

قال الزمخشري: بعد أن وصفهم بالغفلة مع الإعراض، قرر إعراضهم عن تنبيه المنبه وإيقاظ الموقظ، بأن الله يجدد لهم الذكر وقتاً فوقتاً. ويحدث لهم الآية بعد الآية، والسورة بعد السورة، ليكرر على أسماعهم التنبيه والموعظة، لعلهم يتعظون. فما يزيدهم استماع الآي والسور وما فيها من فنون المواعظ والبصائر التي هي أحق الحق وأجد الجد، إلا لعبا وتلهيا واستسخاراً. و(الذكر) هو الطائفة النازلة من القرآن. انتهى.

تنبيه

استدل بهذه الآية من ذهب إلى حدوث كلامه تعالى المسموع. وهم المعتزلة والكرامية والأشعرية. فأما المعتزلة فقالوا: إنما كان القرآن حادثاً لكونه مؤلفاً من أصوات وحروف. فهو قائم بغيره وقالوا: معنى كونه متكلماً: أنه موجد لتلك الحروف والأصوات في الجسم. كاللوح المحفوظ أو كجبريل أو النبيّ عليه الصلاة السلام، أو غيرهم كشجرة موسى.

وأما الكرامية، فلما رأوا ما التزمه المعتزلة مخالفاً للعرف واللغة، ذهبوا إلى أن كلامه صفة له مؤلفة من الحروف والأصوات الحادثة القائمة بذاته تعالى. فذهبوا إلى حدوث الدالّ والمدلول. وجوزوا كونه تعالى محلاً للحوادث.

والأشعرية قالوا: إن الكلام المتلوّ دال على الصفة القديمة النفسية، التي هي الكلام عندهم حقيقة.

قالوا: فما نزل على الأنبياء من الحروف والأصوات، وسمعوها وبلّغوها إلى أممهم، هو محدث موصوف بالتغير والتكثر والنزول. لا مدلولها التي هي تلك الصفة القديمة. والمسئلة شهيرٌ ما للعلماء فيها. والقصد أن الآية المذكورة رآها من ذكر حجة فيما ذهب إليها. وقد عدّ الإمام ابن تيمية، عليه الرحمة والرضوان، هذا الاحتجاج من الأغلاط، وعبارته في كتابه (مطابقة المنقول للمعقول): احتج من يقول بأن القرآن أو عبارة القرآن مخلوقة، بهذه الآية، مع أن دلالة الآية على نقيض قولهم، أقوى منها على قولهم. فإنها تدل على أن بعض الذكر محدث , وبعضه ليس بمحدث، وهو ضد قولهم. والحدوث في لغة العرب العام ليس هو الحدوث في اصطلاح أهل الكلام. فإن العرب يسمون ما تجدد حادثاً، وما تقدم على غيره قديماً. وإن كان بعد أن لم يكن. كقوله تعالى:كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ } [يّس: 39] وقوله تعالى عن إخوة يوسف:تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ ٱلْقَدِيمِ } [يوسف: 95] وقوله تعالى:وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَـٰذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ } [الأحقاف: 11] وقوله تعالى عن إبراهيم:أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ ٱلأَقْدَمُونَ } [الشعراء: 75-76]. انتهى.

وقال العارف ابن عربيّ في الباب التاسع والستين والثلاثمائة من (فتوحاته) في هذه الآية: المراد أنه محدث الإتيان، لا محدث العين.

السابقالتالي
2 3