الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ }

{ وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ } يعنون ما تعنتوا في اقتراحه مما تقدم، في سورة بني إسرائيل، من قوله تعالى:وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ... } [الإسراء: 90-91] الآية.

وقوله تعالى: { أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ } أي: أو لم يأتهم بيان ما في الكتب التي قبل هذا الكتاب، من أنباء الأمم من قبلهم التي أهلكناهم لما سألوا الآيات، فكفروا بها لما أتتهم، كيف عجلنا لهم العذاب وأنزلنا بهم بأسنا بكفرهم بها. يقول: فماذا يؤمنهم إن أتتهم الآية، أن يكون حالهم حال أولئك. هذا ما قاله ابن جرير.

وذهب غيره إلى أن المعنى: أو لم يأتهم آية هي أم الآيات وأعظمها، وهي معجزة القرآن المبينة لما في الكتب الأولى من التوراة والإنجيل والزبور. مع أن الآتي بها أّمّيُّ لم يرها ولم يتعلم ممن علمها. فنقب منها على الصحيح من أنبائها فصدقه، وعلى الباطل المحرف فَفَنَّدَهُ. وفيه إشعار بكفاية التنزيل في الإعجاز والبرهان كما قال تعالى في سورة العنكبوت:وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا ٱلآيَاتُ عِندَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [العنكبوت: 50-51] ولذلك قال أحد حكماء الإسلام: إن الخارق للعادة الذي يعتمد عليه الإسلام في دعوته إلى التصديق برسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الخارق الذي تواتر خبره ولم ينقطع أثره. وهو الدليل وحده. وما عداه مما ورد في الأخبار، سواء صح سندها أو اشتهر أو ضعف أو وهي، فليس مما يوجب القطع عند المسلمين. فإذا أورد في مقام الاستدلال، فهو على سبيل التقوية للعقد لمن حصل أصله، وفضلٌ من التأكيد لمن سلمه من أهله. ذلك الخارق المتواتر المعول عليه في الاستدلال لتحصيل اليقين، هو القرآن وحده. والدليل على أنه معجزة خارقة للعادة، تدل على أن موحيه هو الله وحده وليس من اختراع البشر، هو أنه جاء على لسان أميّ لم يتعلم الكتاب ولم يمارس العلوم، وقد نزل على وتيرة واحدة هاديا للضال، مقوماً للمعوج، كافلاً بنظام عام لحياة من يهتدي به من الأمم، منقذاً لهم من خسران كانوا فيه. وهلاك كانوا أشرفوا عليه. وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه، حتى لقد دعى الفصحاء والبلغاء أن يعارضوه بشيء من مثله، فعجزوا ولجؤوا إلى المجالدة بالسيوف، وسفك الدماء واضطهاد المؤمنين به، إلى أن ألجؤوهم إلى الدفاع عن حقهم، وكان من أمرهم ما كان من انتصار الحق على الباطل وظهور شمس الإسلام تمد عالمها بأضوائها، وتنشر أنوارها في جوائها.

السابقالتالي
2 3