الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }

{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ } التنكير يدل على أن المراد حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة، ولذا كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبيّ: " على الحياة ". { وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } عطف على ما قبله بحسب المعنى؛ كأنه قيل: أحرص من الناس ومن الذين أشْرَكُوا. وإفرادهم بالذكر، مع دخولهم في الناس، للإيذان بامتيازهم من بينهم بشدة الحرص، للمبالغة في توبيخ اليهود. فإن حرصهم، وهم معترفون بالجزاء، لمَّا كان أشد من حرص المشركين المنكرين له، دلّ ذلك على جزمهم بمصيرهم إلى النار. ويجوز أن يحمل على حذف المعطوف ثقةً بإنباء المعطوف عليه، عنه؛ أي: وأحرص من الذين أشركوا.

وأما تجويز كون الواو للاستئناف وقد تم الكلام عند قوله: { عَلَىٰ حَيَاةٍ } تقديره { وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } ناسٌ يود أحدهم، على حذف الموصوف، وقولُ أبي مسلم: إن في الكلام تقديماً وتأخيراً، وتقديره: ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة، ثم فسر هذه المحبة بقوله: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة - فلا يخفى بُعده، لأنه إذا كانت القصة في شأن اليهود خاصة فالأليق بالظاهر، أن يكون المراد: ولتجدن اليهود أحرص على الحياة من سائر الناس ومن الذين أشركوا، ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم وفي إظهار كذبهم في قولهم: إن الدار الآخرة لنا، لا لغيرنا. والله أعلم.

{ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } بيان لزيادة حرصهم، على طريق الاستئناف. و { لَوْ } مصدرية، بمعنى { أَن } مؤوّل ما بعدها بمصدر، مفعول يود. أي: يود أحدهم تعمير ألف سنة { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ } { مَا } حجازية، والضمير العائد على أحدهم اسمها، و { بِمُزَحْزِحِهِ } خبرها، والباء: زائدة، و { أَن يُعَمَّرَ } فاعل مزحزحه، أي: وما أحدهم المتمني بمن يزحزحه، أي: يبعده وينجيه، من العذاب، تعميره. قال القاضي: والمراد أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير، ولو قال تعالى: وما هو بمبعده وبمنجيه لم يدل على قلة التأثير كدلالة هذا القول: { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } فسوف يجازيهم عليه.

وما ذكره بعض المفسرين من أن البصير في اللغة بمعنى العليم لا يخفى فساده، فإن العليم والبصير اسمان متباينا المعنى لغة، نعم! لو حمل أحدهما على الآخر مجازاً لم يبعد، ولا ضرورة إليه هنا، ودعوى أن بعض الأعمال مما لا يصح أن يرى، فلذا حمل هذا البصر على العلم - هو من باب قياس الغائب على الشاهد، وهو بديهيّ البطلان. قال شمس الدين ابن القيم الدمشقيّ في كتاب " الكافية الشافية ":
وهو البصير يرى دبيب النملة السّوْ   داء تحت الصخر والصّوّان
ويرى مجاري القُوتِ في أعضائها   ويرى عُروق بياضها بعِيَان
ويرى خِياناتِ العيونِ بلحضها   ويرى، كذاك، تقلُّبَ الأجفان
وقوله تعالى:

{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقاً... }.