الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ ٱللَّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ }

{ بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ } " ما " نكرة موصوفة بما بعدها، منصوبة على التمييز، مفسرة لفاعل بئس، أي: بئس شيئاً باعوا به أنفسهم واعتاضوا لها، فرضوا به وعدلوا إليه، والمخصوص بالذم قوله تعالى: { أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ ٱللَّهُ } أي: كفرهم بالكتاب المصدق لما معهم بعد الوقوف على حقيقته { بَغْياً } حسداً { أَن يُنَزِّلُ ٱللَّهُ } لأن ينزل، أو على أن ينزل. أي: حسدوه على أن ينزل الله { مِن فَضْلِهِ } الذي هو الوحي { عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } أي: يشاؤه ويصطفيه للرسالة { فَبَآءُو بِغَضَبٍ } أي: رجعوا لأجل ذلك بغضب، في حسَدهم لهذا النبي صلى الله عليه وسلم حتى كفروا به { عَلَىٰ غَضَبٍ } كانوا استحقوه قبل بعثته صلى الله عليه وسلم من أجل تحريفهم الكلم، وتضييعهم بعض أحكام التوراة، وكفرهم بعيسى عليه السلام.

قال الرازي: إن غضبه تعالى يتزايد ويكثر ويصح فيه ذلك كصحته في العذاب، فلا يكون غضبه على من كفر بخصلة واحدة، كغضبه على من كفر بخصال كثيرة.

قلت: وفي الصحيحين عن أبي هريرة: " اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك لا ملك إلا الله " والروايات في توصيف غضبه تعالى بالشدة على بعض المنكرات متوافرة. انظر الجامع الصغير.

ويحتمل المعنى: فصاروا أحقاء بغضب مترادف، فلا يكون القصد إثبات غضبين لأمرين متنوعين أو أمور، بل المراد به تأكيد الغضب، وتكثيره لأجل أن هذا الكفر، وإن كان واحداً، إلا أنه عظيم. والله أعلم.

وقد قدمنا في تفسير قوله تعالى:غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } [الفاتحة: 7] أن الغضب صفة وصف الله تعالى نفسه بها، وليس غضبه كغضبنا، كما أن ذاته ليست مثل ذواتنا، فليس هو مماثلا لأبداننا ولا لأرواحنا، وصفاته كذاته. وما قيل: إن الغضب من الانفعالات النفسانية فيقال نحن وذاتنا منفعلة، فكونها انفعالات فينا لا يجب أن يكون الله منفعلاً بها. كما أن نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين، فصفاته كذلك ليست كصفات المخلوقين، ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه، وليس المنسوب كالمنسوب والمنسوب إليه كالمنسوب إليه، كما قال صلى الله عليه وسلم: " ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر " فشبه الرؤية بالرؤية لا المرئيّ بالمرئيّ. وهذا يتبيّن بقاعدة: وهي أن كثيراً من الناس يتوهم، في بعض الصفات أو كثير منها أو أكثرها أو كلها، أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد نفي ذلك الذي فهمه فيقع في أربعة أنواع من المحاذير: أحدها: كونه مثّل ما فهمه من النصوص لصفات المخلوقين. وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل. الثاني: أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطّله فبقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله فيبقى مع جنايةٍ على النصوص، وظنه السَّيئ الذي ظنه بالله ورسوله، حيث خلاف الذي يفهم من كلامهما، من إثبات صفات الله والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى.

السابقالتالي
2