الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ }

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } ثم بين الميثاق بقوله تعالى: { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ } وهو إخبار في معنى النهي، كقوله تعالى:وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } [البقرة: 282] وكما تقول: تذهب إلى فلان وتقول له كذا، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي، وقد بدئ بأعلى الحقوق وأعظمها، وهو حق الله تبارك وتعالى. أن يُعبد وحدَه ولا يشرك به شيئاً. وبهذا أمر جميع خلقه. ولذلك خلقهم، كما قال تعالى:وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ } [الأنبياء: 25]. وقال تعالى:وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ } [النحل: 36 ]. { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } والإحسان نهاية البر، فيدخل فيه جميع ما يجب من الرعاية والعناية، وقد أكد الله الأمر بإكرام الوالدين، حتى قرن تعالى الأمر بالإحسان إليهما، بعبادته التي هي توحيده، والبراءة عن الشرك، اهتماماً به وتعظيماً له.

قال حكيم مصر في تفسيره: العلة الصحيحة في وجوب هذا الإحسان على الولد، هي العناية الصادقة التي بذلاها في تربيته والقيام بشؤونه أيام كان ضعيفاً عاجزاً جاهلاً. لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضرراً. وكانا يحوطانه بالعناية والرعاية، ويكفلانه، حتى يقدر على الاستقلال والقيام بشأن نفسه، فهذا هو الإحسان الذي يكون منهما، عن علمٍ واختيارٍ، بل مع الشغف الصحيح والحنان العظيم، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان. وإذا وجب على الإنسان أن يشكر، لكل من يساعده على أمر عسير، فضله، ويكافئه بما يليق به على حسب الحال في المساعد؛ وما كانت به المساعدة، فكيف لا يجب أن يكون الشكر للوالدين بعد الشكر لله تعالى، وهما اللذان كانا يساعدانه على كل شيء، أيام كان يتعذر عليه كل شيء. ا.هـ. { وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ } أي: القرابة.

قال الأستاذ الحكيم: الإحسان هو الذي يقوي غرائز الفطرة، ويوثق الروابط الطبيعية، حتى تبليغ البيوت، في وحدة المصلحة، درجةَ الكمال. والأمة تتألف من البيوت، أي: العائلات، فصلاحها صلاحها. ومن لم يكن له بيت لا تكون له أمة، وذلك أن عاطفة التراحم وداعية التعاون إنما تكونان على أشدهما وأكملهما في الفطرة بين الوالديْن والأولاد. ثم بين سائر الأقربين، فمن فسدت فطرته حتى لا خير فيه لأهله، فأي خير يرجى منه للبعداء والأبعدين؟ ومن لا خير فيه للناس لا يصلح أن يكون جزءاً من بنية أمته، لأنه لم تنفع فيه اللحمة النسبية التي هي أقوى لحمة طبيعية تصل بين الناس، فأي لحمة بعدها تصله بغير الأهل فتجعله جزءاً منهم، يسره ما يسرهم ويؤلمه ما يؤلمهم ويرى منفعتهم عين منفعته، ومضرتهم عين مضرته؟

قضى نظام الفطرة بأن تكون نعرة القرابة أقوى من كل نعرة، وصلتها أمتن من كل صلة.

السابقالتالي
2