الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ }

{ فَوَيْلٌ } فإن أضيف، نُصِبَ، نحو: ويلك وويحك - وإذا فُصّل عن الإضافة، رفع، نحو: ويلٌ له. الويل: الهلاك وشدة العذاب { لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ } أي: المحرف. أو ما كتبوه من التأويلات الزائفة { بِأَيْدِيهِمْ } تأكيد لدفع توهم المجاز، كقولك: كتبته بيميني. وقد يقال في مثل هذا: إن فائدته تصوير الحالة في النفس كما وقعت حتى يكاد السامع لذلك أن يكون مشاهداً للهيئة { ثُمَّ يَقُولُونَ } لما كتبوه، كذباً وبهتاناً { هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ } أي: يأخذوا لأنفسهم بمقابلته { ثَمَناً قَلِيلاً } أي: عَرَضاً يسيراً.

ويجوز في الآية معنى آخر. أي: فويل للذين يكتبون كتاب التوراة بأيديهم ثم يقولون: هذا من عند الله، فيشهدون بذلك. وكان من مقتضى كتابتهم بأيديهم التي تقفهم من الكتاب على ما لا يقفون عليه، لو كان كتابةَ غيرهم، ومقتضى قولهم وإقرارهم بأنه من عند الله - الوقوفُ مع عهوده ومواثيقه، إجلالاً لمُنزْله ومُوحيه، ودعوى الناس إلى ظواهره وخوافيه. ولكن لم يكن ذلك منهم، بل كان أن حرفوا كلمه عن مواضعه ليشتروا به ثمناً قليلاً. وحاصل هذا الوجه إبقاء الكتاب المكتوب على أصله، وصدقهم في قولهم: هذا من عند الله. ثم مخالفتهم لذلك، فيكون قوله تعالى: { لِيَشْتَرُواْ بِهِ } تعليلاً لمحذوف دل عليه السياق. أي ثم بعد ذلك يحرفونه ثم ليشتروا به. وهو وجه جيد يوافق آيةيُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } [النساء: 46، المائدة: 13] وربما يشير إلى هذا الوجه قول مجاهد فيما رواه ابن جرير: هؤلاء الذين عرفوا أنه من عند الله يحرفونه { وَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } أي: فشدة العذاب لهم مما غيرت أيديهم { وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } يصيبون من الحرام والسحت.

قال الراغب: إن قيل: لم ذكر { يَكْسِبُونَ } بلفظ المستقبل و { كَتَبَتْ } بلفظ الماضي؟ قيل: تنبيهاً على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " فنبه بالآية أن ما أصّلوه وأثبتوه من التأويلات الفاسدة، التي يعتمدها الجهلة، هو اكتساب وزر يكتسبونه حالاً فحالاً. إن قيل: لم ذكر الكتابة دون القول. قيل: لما كانت الكتابة متضمنة للقول وزائدة عليه، إذ هو كذب باللسان واليد، صار أبلغ، لأن كلام اليد يبقى رسمه والقول يضمحل أثره، إن قيل: ما الذي كانوا يكتبونه؟ قيل: روى عن بعض السلف أن رؤساء اليهود كانوا يغيرون من التوراة نعت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقولون هذا من عند الله، وهذا فصل يحتاج إلى فضل شرح، وهو أنه يجب أن يتصور أن كل نبي أتى بوصف لنبي بعده، فإنه أتى بلفظة معرّضة وإشارة مدرجة، لا يعرفها إلا الراسخون في العلم، وقد قال العلماء: ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.

السابقالتالي
2