الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } أي: قوماً يخلف بعضهم بعضاً، قرناً بعد قرن. كما قال تعالى:وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ } [الأنعام: 165] وقال:وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلأَرْضِ } [النمل: 62] وقال:وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي ٱلأَرْضِ يَخْلُفُونَ } [الزخرف: 60] وقال:فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } [الأعراف: 169 ، مريم: 59]. ويجوز أن يراد: خليفة منكم، لأنهم كانوا سكان الأرض، فخلفهم فيها آدم وذريته؛ وأن يراد: خليفةً مني، لأن آدم كان خليفة الله في أرضه. وكذلك كل نبيإِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ } [ص: 26] والغرض من إخبار الملائكة بذلك، هو أن يسألوا ذلك السؤال، ويُجابوا بما أجيبوا به، فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم، صيانةً لهم عن اعتراض الشبهة في وقت استخلافهم؛ أو الحكمة: تعليم العباد المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها، وعرضها على ثقاتهم ونصحائهم - وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاروة - أو تعظيم شأن المجعول، وإظهار فضله، بأن بَشَّرَ بوجود سكان ملكوته، ونوّه بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده، ولقبه بالخليفة.

{ قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } هذا تعجب من أن يستخلف - لعمارة الأرض وإصلاحها - من يفسد فيها، واستعلامٌ عن الحكمة في ذلك. أي: كيف تستخلف هؤلاء، مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك، ونقدس لك - أي: ولا يصدر عنا شيءٌ من ذلك - وهلا وقع الاقتصار علينا...؟ فقال تعالى مجيباً لهم: { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي: إن لي حكمة - في خلق الخليفة - لا تعلمونها.

فإن قلتَ: من أين عرف الملائكة ذلك حتى تعجبوا منه، وإنما هو غيب؟

أجيب: بأنهم عرفوه: إما بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية. فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنفمِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [الحج: 26، 28، 32] أو فهموا من " الخليفة " أنه الذي يفصل بين الناس، ما يقع بينهم من المظالم، ويردَعُهُمْ عن المحارم والمآثم.

قال العلامة برهان الدين البقاعي في تفسيره: وما يقال من أنه كان قبل آدم، عليه السلام، في الأرض خلقٌ يعصون، قاس عليهم الملائكة حال آدم عليه السلام - كلامٌ لا أصل له. بل آدم أول ساكنيها بنفسه. انتهى.

وقوله تعالى: { نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } أي: ننزهك عن كل ما لا يليق بشأنك، ملتبسين بحمدك - على ما أنعمت به علينا من فنون النعم التي من جملتها توفيقنا لهذه العبادة.

وقوله: { وَنُقَدِّسُ لَكَ } أي: نصفك بما يليق بك - من العلو والعزة - وننزهك عما لا يليق بك.

السابقالتالي
2