الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ }

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ } أي: ممن تقدمكم من الأمم { مِن دِيَٰرِهِمْ } أي: التي ألفوها لما وقع فيها مما لا طاقة لهم به من الموت. ولفظة { أَلَمْ تَرَ } قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجيب والتقرير والتذكير - كالأحبار وأهل التاريخ - وقد تذكر لمن لا يكون كذلك. فتكون لتعريفه وتعجيبه.

قال الراغب: رأيت يتعدى بنفسه دون الجار. لكن لما استعير { أَلَمْ تَرَ } لمعنى ألم تنظر عدى تعديته بإلى، وفائدة استعارته: أن النظر قد يتعدى عن الرؤية، فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة للرؤية استعيرت له، وقلما استعمل ذلك في غير التقرير فلا يقال: رأيت إلى كذا.

{ وَهُمْ أُلُوفٌ } أي: في العدد جمع ألف، أو وهم مؤتلفون ومجتمعون مع آلف، بالمدّ - كشاهد وشهود - أي: إن خروجهم لم يكن عن افتراق كان منهم ولا تباغض ولكن { حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } مفعول له - أي: فرارا منه وقوله: { فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ } معناه: فأماتهم، وإنما جيء به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته، وتلك مشيته خارجة عن العادة كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالا من غير إباء ولا توقف. كقوله تعالى:إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس: 82] { ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ } عطف. إما على مقدر يستدعيه المقام أي: فماتوا ثم أحياهم - وإنما حذف للدلالة على الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته. وإما على قال لما أنه عبارة عن الإماتة { إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ } قاطبة. أما أولئك فقد أحياهم ليعتبروا بما جرى عليهم فيفوزوا بالسعادة، وأما الذين سمعوا قصتهم فقد هداهم إلى مسلك الاعتبار والاستبصار، فقد تفضَّل على الجميع ليشكروه { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } أي: فضله كما ينبغي.

تنبيه

روي عن ابن عباس: أنّ الآية عُنِيَ بها قوم كثيرو العدد خرجوا من ديارهم فراراً من الجهاد في سبيل الله فأماتهم الله ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا عدّوهم. فكأنها ذكرت ممهدة للأمر بالقتال بعدها في قوله تعالى:وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [البقرة: 244].

ومعلوم أن سورة البقرة مما نزل في المدينة إثر الهجرة قبل فتح مكة، وكان العدوّ في مكة وما حولها في كثرة وقوة ومنعة، فأمِر المسلمون المهاجرون ومن آواهم أن يقاتلوا في سبيل الله. وقصّ لهم من الأنباء ما فيه بعث لهم على الجهاد وتبشير لهم بالفوز والعاقبة، وأن يكونوا في قلة وضعف، ما داموا مستمسكين بحبل الوفاق والصبر والمصابرة. وقد ذهب بعض الرواة إلى أن هذه الآية عنى بها ما قص في التوراة عن حزقيل - أحد أنبياء بني إسرائيل - أنه أُوِحيَ إليه أن يخرج إلى فلاة واسعة قد ملئت عظاماً يابسة من موتى بني إسرائيل.

السابقالتالي
2