الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ }

{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } أي: ما أمرتم به من الإتيان بالمثل، بعد ما بذلتم في السعي غاية المجهود: { وَلَن تَفْعَلُواْ } اعتراض بين جزأي الشرطية، مقررٌ لمضمون مقدامها، ومؤكدٌ لإيجاب العمل بتاليها، وهي معجزة باهرة: حيث أخبر بالغيب الخاص - علمه به عز وجل - وقد وقع الأمر كذلك { فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ } جواب للشرط، على أن اتقاء النار كنايةٌ عن الاحتراز من العناد، إذ - بذلك - يتحققُّ تسبُّبه عنه، وترتبه عليه، كأنه قيل: فإذا عجزتم عن الإتيان بمثله - كما هو المقرر - فاحترزوا من إنكار كونه منزلاً من عند الله سبحانه، فإنه مستوجب للعقاب بالنار، لكن أوثر عليه الكناية المذكورة المبنيّة على تصوير العناد بصورة النار، وجَعْلِ الاتصاف به عين الملابسة بها، للمبالغة في تهويل شأنه، وتفظيع أمره، وإظهار كمال العناية - بتحذير المخاطبين منه، وتنفيرهم عنه، وحثّهم على الجدّ في تحقيق المكنيّ به - وفيه من الإيجاز البديع ما لا يخفى، حيث كان الأصل: فإن لم تفعلوا فقد صحَّ صدقه عندكم، وإذا صحَّ ذلك كان لزومكم العناد، وتَرْكُكُم الإيمان به، سبباً لاستحقاقكم العقاب بالنار، فاحترزوا منه واتَّقوا النار { ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } صفة للنار مورثةٌ لها زيادةَ هولٍ وفظاعة - أعاذنا الله منها برحمته الواسعة - و " الوقود " ما توقد به النار، وترفع من الحطب. وقُرِئ بضمّ الواو، وهو مصدرٌ سمّي به المفعول مبالغة - كما يقال: فلانٌ فَخْرُ قومه، وزين بلده - فإن قيل: صلة الذي والتي يجب أن تكون قصة معلومة للمخاطب، فكيف علم أولئك أنَّ نار الآخرة توقد بالناس والحجارة؟

قلت: لا يمتنع أن يتقدَّم لهم بذلك سماع من آيات التنزيل المتقدّمة عليها، أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من أهل الكتاب، والمراد بالحجارة الأصنام، وبالناس أنفسهم - حسبما ورد في قوله تعالى:إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [الأنبياء: 98] فإنها مفسّرة لما نحن فيه - وحكمة اقترانهم مع الحجارة في الوقود: أنهم لمّا اعتقدوا في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء الذين يستنفعون بهم، ويستدفعون المضارّ عن أنفسهم بمكانهم، جعلها الله عذابهم، فقرنهم بها مُحماةً في نار جهنم - إبلاغاً في إيلامهم، وإغراقاً في تحسيرهم. ونحوه ما يفعله بالكانزين الذين جعلوا ذهبهم وفضَّتهم عدةً وذخيرة، فشحُّوا بها، ومنعوها من الحقوق، حيث يُحمى عليها في نار جَهَنَّمَ. فَتُكْوَى جباههم وجنوبهم { أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ } هُيئت لهم، وجعلت عدةً لعذابهم. والمراد: إما جنس الكفَّار - والمخاطَبُون داخلون فيهم دخولاً أوَّلياً - وإمَّا هم خاصة، ووضع الكافرين موضع ضميرهم - لذمهم، وتعليل الحكم بكفرهم - والجملة مستأنفة مقرّرة لمضمون ما قبلها، ومبيّنة لمن أريد بالناس، دافعة لاحتمال العموم.

السابقالتالي
2 3 4 5