الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ }

{ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا } - أي: من القرآن الذي نزلناه - { عَلَىٰ عَبْدِنَا } محمد صلى الله عليه وسلم أنه من عند الله تعالى، والتعبير عن اعتقادهم في حقّه بالريب - مع أنهم جازمون بكونه من كلام البشر - كما يعرب عنه قوله تعالى: { إِنْ كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ } إمّا للإيذان بأنَّ أقصى ما يمكن صدوره عنهم - وإن كانوا في غاية ما يكون من المكابرة والعناد - هو الارتياب في شأنه (وأما الجزم المذكور فخارج من دائرة الاحتمال، كما أنّ تنكيره وتصديره بكلمة الشك للإشعار بأن حقّه أن يكون ضعيفاً مشكوكَ الوقوع) وإمّآ للتنبيه على أن جزمهم ذلك بمنزلة الريب الضعيف لكمال وضوح دلائل الإعجاز، ونهاية قوّتها. وإنّما لم يقل: وإن ارتبتم فيما نزلنا... الخ، لِمَا أشير إليه - فيما سلف - من المبالغة في تنزيه ساحة التنزيل عن شائبة وقوع الريب فيه - حسبما نطق به قوله تعالى: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } - والإشعار بأن ذلك - إنْ وقع - فمن جهتهم لا مِنْ جهته العالية، واعتبار استقرارهم فيه، وإحاطته بهم، لا ينافي اعتبار ضعفه وقلّته: لِمَا أنّ ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به، لا قلّته ولا كثرته. وفي ذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان العبودية، مع الإضافة إلى ضمير الجلالة - من التشريف، والتنويه، والتنبيه على اختصاصه به عزّ وجلّ، وانقياده لأوامره تعالى - ما لا يخفي. والأمر في قوله تعالى: { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ } من باب التعجيز وإلقام الحجر، كما في قوله تعالى:فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ } [البقرة: 258]، أو من باب المجاراة معهم - بحسب حسبانهم - حيث كانوا يقولون: لو نشاء لقلنا مثل هذا.

" والسورة " الطائفة من القرآن العظيم المترجمة، وأقلها ثلاث آيات، وواوها أصلية، منقولة من سور البلد - لأنها محيطةٌ بطائفةٍ من القرآن مفرزةٍ، مُحْوِزَةٍ، أو محتويةٌ على فنونٍ رائقة من العلوم، احتواء سور المدينة على ما فيها. أو من السورة التي هي الرتبة. فإن سُوَرَ القرآن مع كونها في أنفسها رتباً- من حيث الفضل والشرف، أو من حيث الطول والقصر - فهي من حيث انتظامها مع أخَواتها في المصحف: مراتب يرتقي إليها القارئ شيئاً فشيئاً. و { مِّن } في قوله تعالى: { مِّن مِّثْلِهِ } بيانية متعلقة بمحذوف صفة لسورة، والضمير { مِّمَّا نَزَّلْنَا } أي بسورةٍ كائنة من مثله في علو الرتبة، وسموّ الطبقة، والنظم الرائق، والبيان البديع، وحيازة سائر نعوت الإعجاز. وقيل: { مِّن } زائدة - على ما هو رأي الأخفش - بدليل قوله تعالى:فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } [يونس: 38]بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ } [هود: 13].

وقوله تعالى: { وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ } إرشادٌ لهم إلى إنهاض أمةٍ جَمَّةٍ، ليحتشدوا في حلبة المعارضة بخيلهم ورَجلِهم، ويتعاونوا على الإتيان بقدرٍ يسير مماثل في صفات الكمال لما أتى بجملته واحدٌ من أبناء جنسهم.

السابقالتالي
2